الثقافية - علي القحطاني:
حين يكون الأدب أكثر من شغف والنقد أعمق من حرفة نكون أمام تجربة متفردة كتجربة الدكتور محمد صالح الشنطي. ناقد وأكاديمي ومثقف عابر للأزمنة والحدود، انطلقت رحلته من الخليل الفلسطينية، وسط تداعيات النكبة، وتفتّحت عيناه على أول عدد من مجلة (العربي) الكويتية، فكانت تلك اللحظة شرارة الانتماء المبكر لعالم الكلمة.
تلقّى تعليمه في مدارس الأونروا، قبل أن يشدّ رحاله إلى القاهرة، حيث درس في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وتتلمذ على أعلام الفكر والنقد مثل شوقي ضيف، وسهير القلماوي، وأمين الخولي، وعبد المنعم تليمة. وهناك تشكّل وعيه النقدي، مستندًا إلى تراث رصين، وانفتاح على المناهج الحديثة، ومخالطة لأجيال مبدعة من زملائه، مثل عز الدين المناصرة، وجهاد الكبيسي، وغطاس صويص، وغيرهم.
لم يكتفِ الدكتور الشنطي بالتحصيل، بل عاش الكتابة والتعليم عقيدة معرفية. بدأ معلمًا في تبوك، ثم أستاذًا في كليات المعلمين، فالجامعة العربية المفتوحة، فجامعة جدارا، وأخيرًا أستاذًا زائرًا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، أشرف على عشرات الرسائل العلمية، وكتب مقررات جامعية، وأصدر مؤلفات نقدية تعدّ من المراجع المعتمدة في الأدب السعودي.
كان الشنطي شاهدًا حيًّا على المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية منذ أواخر الستينيات، وساهم بفاعلية في أنشطة الأندية الأدبية، والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، كما كان حاضرًا في الملاحق الثقافية، والندوات، والمؤتمرات الكبرى، مشاركًا ومحاضرًا ومنظّرًا، حريصًا على أن يظل النقد جسرًا بين النص والقارئ، لا سلطة فوقه.
في هذا اللقاء الممتد لـ«الثقافية» نستعيد مع الدكتور محمد صالح الشنطي أبرز محطات سيرته النقدية والتعليمية، ونستطلع رؤيته لمناهج النقد، ومفهومه لـ«نقد النقد»، وموقفه من المبادرات الثقافية الجديدة كمشروع «الشريك الأدبي»، كما نتوقف عند سيرته الذاتية المرتقبة «أيام خضر وسنين عجاف»، التي كتبها لا ليؤرّخ حياته فقط، بل ليشهد على زمن عربيٍ مثقلٍ بالتحوّلات، والأسئلة، والانكسارات.
البدايات
* نود أن نبدأ بسؤال عن بداية رحلتكم في عالم الأدب والنقد؛ ما اللحظات أو العوامل التي أشعلت شغفكم بهذا المجال ودفعتكم للتخصص في الأدب العربي الحديث تحديدًا؟
- هذا السؤال يجعلني أعود بالذاكرة إلى البدايات، فقد كنت في الصف السادس حين صدر العدد الأول من مجلة (العربي) الكويتية التي اختير لرئاستها العالم العربي الدكتور أحمد زكي، وذلك في ديسمبر عام 1958، وكان يدرّسُنا مواد اللغة العربية معلم عاشق للعربية الأستاذ عبد العزيز عليان -رحمه الله- الذي عرفنا فيما بعد أنه كان مُنتَسِباً لقسم اللغة العربية في جامعة دمشق، وكان معروفاً عنها أنها تتشدّد في القبول وتجري مقابلات لطلبتها الراغبين في الالتحاق بهذا القسم، وكذلك في إجراء الامتحانات إذ من المألوف للباحث في نتائج المساقات أن يقرأ عبارة (لم ينجح أحد) في كشوفاتها ؛ فكان يقال عنها (الداخل إليها مفقود والمتخرج فيها مولود).
وكان معلّمنا قويّ الشخصيّة بارعاً في إلقاء الشعر مما جعلنا نعشق اللغة العربية ونتعلّق بها، الأمر الذي دفعنا إلى القراءة فوجدنا في (مجلة العربي) ضالّتنا، وكنّا نترقّب صدورها بفارغ الصبر ونقضي أوقاتا ممتعة في قراءة ما فيها من مقالات وأشعار وأبواب مختلفة، وحين أنهيت المرحلة الابتدائية والمتوسطة في المدرسة التي كانت تابعة للأنوروا التابعة للأمم المتحدة انتقلنا إلى مدرسة ابن رشد الحكومية في مدينة الخليل، وكان مُدرّس اللغة العربية فيها الأستاذ حساين -رحمه الله- وكان شغوفاً بالعربيّة ازداد حبي وتعلّقي باللغة العربية، وعكفت مع صديقي الأستاذ شحدة بركات على حفظ الأشعار، وكان لكلٍ منّا كراسة يدوّن فيها أشعار الشعراء الذين تجتذبنا أشعارهم من الأقدمين والمحدثين، ونتبارى في الحفظ ونتابع اقتناء الأعداد الشهريّة من مجلة العربي، وبدأنا في سباق الحفظ لتلك الأشعار مقلّدين الرواة الأقدمين فأطلق عليّ صديقي شحدة لقب (الراوية) ويقول عني «محمد راوية أشعاري»، وكان قد بدأ ينظم الشعر وأذكر أنّ أول بيت حفظته له قوله عند قدوم الربيع:
أَيا ملكَ الفصولِ تعالَ حتّى
نُخبّركم بما نَحمِلُه عنكا
وكنت أحب مادة الرياضيات حصلت فيها على العلامة كاملة في امتحان الشهادة الإعداديّة آنذاك؛ وكانت أيامنا شهادة شاملة موحدة، وعزمت على الالتحاق بالقسم العلمي بعد إنهاء الصف الأول الثانوي؛ ولكن مدرّس المادة في هذا الصف كان فظّاً غليظاً جعلني أعزف عن هذه الرغبة؛ خصوصاً وأن مدرس العربية (حساين) كان على العكس منه لطيفاً فالتحقت بالقسم الأدبي، وانتقلت من مدرسة ابن رشد الى كلية الحسين بن علي الثانوية التي كانت المدرسة الوحيدة التي يتخرّج فيها طلاب شهادة الثانوية العامة، وهناك تبلورَت رغبتي وازداد شغفي بهذه المادة، حيث كان يدرّسنا الأستاذ عثمان عمرو -رحمه الله- وكان رجلاً فاضلاَ ضليعاً في اللغة مُحبّاً لها اجتَذَبنا إليها، فتبلورت لدي رغبة التخصص في اللغة العربية، وكنت أحبّ درس العروض وكان يعلّمنا مُدرّسنا كيف نقطّع الشعر ونتعرف إلى بحوره، ويكّلفنا النظم فيها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وصادف أن قرأنا في كتاب المطالعة مسرحية لتوفيق الحكيم يدور فيها حوار بينه وبين حماره، كنت أقوم بقراءة الجزء الذي يأتي على لسان الحمار مما أثار سخرية الزملاء، وكان موضوع درس العروض البحر المتقارب فنظمت قصيدة مطلعها:
يقولون عنّي حمار ولكن
حمار الحكيم يفوق الحكيم
فعولن فعولن فعولن فعولن
فعولن فعولُ فعولن فعول
وحين ظهرت نتائج الثانوية العامة عام 1964، وكان هناك نظامان: النظام الأردني والنظام المصري، فالتحقت بالنظام المصري وكان ترتيبي (الأوّل) بين زملائي على مستوى المملكة، وكان ترتيب زميلي الشاعر عز الدين المناصرة -رحمه الله- الثاني؛ وكانت رغبة الأهل التخصّص في (السياسة والاقتصاد) ولكنني وجدت أن الأمر عسير وأن خربجي هذا القسم ينتمون إلى شريحة اجتماعية خاصّة فرضيت من الغنيمة بالإياب وتخصّصت في اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، والتحق زميلي الشاعر الدكتور المناصرة بكلية دار العلوم.
وفي الجامعة تعرفت إلى زميلي القاص العراقي جهاد الكبيسي -رحمه الله- وكان أديباً معروفاً، وكذلك الأستاذ غطاس صويص (نزيه أبو نضال) الصديق الصدوق -رحمه الله- وكان أديباً مرموقاً ينشر قصصه في مجلة الرسالة والثقافة في القاهرة ونحن طلاب، وكذلك الأكاديمي المرموق الصديق الكريم أحمد الخطيب الذي كان أستاذاً وعميداً في جامعة البتراء في الأردن، وكوكبة ممّن أصبح لهم مكانة مرموقة، وكان جلُّ أساتذتنا في الجامعة من كبار العلماء وأمين الخولي ويوسف خليف وعبد العزيز الأهواني وسهير القلماوي وعبد الحميد يونس وعبد المنعم تليمة وحسين نصار وخليل نامي وشوقي ضيف وعبد المنعم تليمة وطه وادي وعبد المحسن طه بدر، وزاملنا نقاداً لهم شهرتهم،مثل جابر عصفور -رحمه الله- وكان قد لمع نجم ناقدات مشهورات مثل الدكتورة سيزا قاسم، وكانت زميلة كريمة أفدتُ منها في إعداد رسالة الدكتوراه بعد أن عرّفني إليها الدكتور عبد المنعم تليمة، وكانت تعمل في الجامعة الأمريكية في القاهرة، ورضوى عاشور الأديبة المرموقة قرأت لها ولم ألتق بها، وكذلك الدكتورة فاطمة موسى، وقد عهد القسم للدكتورة الناقدة المرموقة المكانة زوجة الدكتور عز الدين اسماعيل الدكتورة نبيلة إبراهيم الإشراف على رسالتي في الماجستير في بداية الأمر، ثم انتقل الإشرا ف إلى الدكتور عبد المنعم تليمة، ومن هنا كان شغفي بالأدب والنقد نتيجة لكل هذه المؤثرات، بالإضافة إلى أن القاهرة في تلك الحقبة كانت تموج بنشاط ثقافي على أصعدة متعدّدة فكنّا نقضي أوقاتاً طويلة ما بين جمعية الأدب الحديث ونادي القصة، وحضور المسرحيات الجادة والفعاليات الثقافية المتعدّدة من أمسيات شعريّة ومحاضرات ومؤتمرات، وكانت تصدر في القاهرة شهرياً أعداد كثيرة من المجلات الثقافية المتخصصة: مجلة شعر ومجلة المسرح ومجلة القصة ومجلة الفنون الشعبية ومجلة الكاتب ومجلة الطليعة التي كان يصدرها لطفي الخولي ومجلة الفكر المعاصر التي يرأس تحريرها زكي نجيب محمود ومجلة الهلال ومجلة الآداب البيروتية.
التجربة الأكاديمية
* كيف أثّرت تجربتكم الأكاديمية الطويلة كأستاذ جامعي على صياغة رؤيتكم النقدية وتطوير منهجكم في مقاربة الأعمال الأدبية؟
- أود أن أشير ابتداءَ إلى أني تنقلت في عملي بين التدريس في التعليم العام (في المرحلة الثانوية) لأكثر من عقد من الزمان ثم في (كلية المعلمين) لأكثر من عقدين من الزمان درّست أثناءها في الجامعة العربية المفتوحة، ثم انتقلت إلى جامعة جدارا للدراسات العليا لما يقرب من عقد من الزمان، ثم عملت أستاذا زائرا في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، واشتركت في العديد من المؤتمرات العلمية، وتعلّمت من ذلك الكثير.
في التعليم العام عكفت على تيسير المادة العلميّة التي كنت أُدرّسها لطلابي، وأفادني ذلك في التماس المداخل الطبيعيّة لقراءة النصوص وتحليلها على نحو واضح ؛ فكنت أبدأ بالكلّيّات المتعلقة بالمضمون والرؤى ؛ ثم بالظواهرالبلاغية (كما هو مقرر) ثم بالتنوّع الأسلوبي والعدول عن المألوف في الصياغات والتراكيب في اللغة الأدبية؛ فبدأت من حيث ينبغي أن يبدأ الشادي في مضمار النقد في أيسر سُبُله وأبسط مناهجِه؛ وقد أفادتني مُدارستي للنصوص القديمة والحديثة التي كانت مقررة على طلاب الثانوية العامة أن ألتمس المفاتيح التي أدلف من خلالها إلى النصِّ الأدبيِّ شعراً كان أو نثراً دون تكلّف، وقد استفدت من بعض الموجّهين التربويين الذين كانوا في المجمل من الباحثين والنّقاد الجادّين أمثال الأستاذعبد الرحيم أبو بكر -رحمه الله- الذي كان يأتي من المدينة المنورة موجّهاً تربوياًّ إلى ثانوية تبوك انعقدت بيني وبينه صداقة دامت أعواماً ؛ فقد كنّا زملاء في مرحلة الماجستير في جامعة القاهرة، وكان يشرف على رسالته الدكتور شكري عياد -رحمه الله- بينما كان أستاذي المشرف الدكتور عبد المنعم تليمة -رحمه الله- وقد التقيت به في القاهرة أكثر من مرة، وزارني في تبوك مرات عديدة، وفي المرحلة الثانوية كان ُتثار بعض القضايا النقديّة في الملاحق الثقافية التي كُنت أتابعها وأشارك فيها أحياناً، وكان يسهم في حواراتها أساتذة أكاديميون استفدت منهم، واستفدت من تجاربي في النشاط المنبري الذي كان يُعقد في بعض الجامعات والنوادي الأدبية.
وفي فترة تفرّغي للدكتوارة في عامي 1982 و1983 كنت على تواصل مع أساتذتي في قسمى اللغة العربية الدكتور طه وادي والدكتور عبد المحسن طه بدر-رحمهما الله- أفدت منهما ومن المناقشات والندوات التي كانت تُعقد في رحاب الجامعة والمؤسسات الثقافية الأخرى؛ وقد صادف وجود انعقاد مهرجان شوقي وحافظ الذي حضره عدد كبير من الأكاديميين والمثقفين والأدباء بمناسبة مرور خمسين عاما على وفاتهما عام 1932 وقُدّمت فيه محاضرات ودراسات ومسرحيات شعريّة، وأذكر من أبرز الحضور الدكتور ناصر الدين الأسد وعز الدين اسماعيل وغيرهما، والشاعر أمل دنقل الذي توفي في العام نفسه (مايو 1982) وألقى في هذا المهرجان قصيدته الشهيرة (لا تصالح) وقد استفدت من الحوارات والمناقشات التي كانت تدور مع هؤلاء الأعلام حول النقد والنظريات النقدية الحديثة.
أما كلية المعلمين فقد أفادتني بالعكوف على التأليف في المساقات المقرّرة التي أكسبتني خبرة - على نحو ما - في التأليف الأكاديمي وما يعرف بـ(البيداغوجيا) العلم المتصل بأصول فن التعليم والتعلّم، وقد واصلت هذه المهمة؛ وكذلك تقديم الدراسات النقديّة في الأمسيات الثقافية في مختلف النوادي والجمعيات الثقافية في المملكة العربية السعودية وفي الأردن، وفي المنصات ؛ وخصوصا منصات إيفاد التي أسسها نجلي الدكتور عبد الله الشنطي وبعض الجامعات العربية في تعاونها مع المنصة وتقديم المحاضرات والندوات والمؤتمرات عبر اتفاقات مبرمة، وكل ذلك أفادني في محاولتي الإحاطة ببعض ما تيسّر لي من فهم المناهج النقدية قديمها والحديث، ولي بعض المؤلفات في هذا الجانب ؛ وليس من شك في أن إشرافي على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه أفادني في تَمثُّل المناهج الحديثة عبر الممارسة الدؤوب في الاطلاع والتوجيه والإرشاد.
الأدب السعودي
* كيف أثرت البيئة الثقافية والاجتماعية الفريدة للمملكة في تشكيل الأدب المحلي؟ وما أبرز الأسماء والأعمال السردية والشعرية السعودية التي تركت بصمة واضحة في هذا السياق؟
- منذ أن أتيح لي شرف الإقامة في المملكة العربية السعودية عام 1968وأنا أرى جهوداً واضحة من المؤسسات الرسمية تبذل في دعم الأدب والثقافة في المملكة عبر الصحف والمجلات ومنها مجلة اليمامة والفيصل والمجلة العربية والمنهل والتوباد غيرها والملاحق الثقافية الأسبوعيّة والصفحات الثقافية اليومية.
الأندية الأدبية والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون لعبت دورًا محوريًا في نهضة الأدب في المملكة العربية السعودية، من خلال تعزيز الحركة الثقافية والأدبية ودعم المبدعين من خلال إقامة الندوات، الأمسيات الشعرية، المحاضرات، والملتقيات الثقافية السنوية، مما عزّز التفاعل بين الأدباء السعوديين ونظرائهم العرب،ومن خلال إصدار العديد من الكتب والمجلات والدوريات مثل «حقول» و»قوافل» من نادي الرياض، و»علامات» والمنشورات الدورية الخاصة بالشعر والقصة والترجمة من نادي جدة،وقد توفرت مكتبات تحتوي على إصدارات الأندية وغيرها، مما ساهم في توثيق التاريخ الأدبي والثقافي السعودي.
وأما الجمعية العربية السعودية للثقافة وللفنون فقد قدمت أنشطة ثقافية وفنية متنوعة عبر فروعها الـ16 في مناطق المملكة، مما عزز الحضور الثقافي الوطني؛ وقد شكلت الأندية الأدبية والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون ركيزتين أساسيتين في نهضة الأدب السعودي، ولهما دور حيويً في تحقيق رؤية المملكة 2030 الثقافية، وقد لمست ذلك عن قرب فكانت أولى نشاطاتي المنبرية في الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون في الأحساء ثم في الدمام وكان لي شرف االتكريم في المقر الرئيس في الرياض، وقددعيت لإلقاء محاضرات ومشاركات في جلّ الأندية الأدبية في المملكة:حائل والمدينة المنورة وجازان المنورة والشرقية وجدة وأبها والباحة والطائف والقصيم والرياض ومكة المكرمة، ونشرت لي هذه الأندية عدداً من كتبي.
** **
@ali_s_alq