في المجموعة القصصية «حكايات مجهولة» يمضي القاص رشيد الصقري نحو حواف الحكاية اليومية في اكثر من 30 نصا قصصيا، يلتقط منها ما يبدو للعين العادية مألوفاً وعابراً، ثم يعيد صياغتها بطريقة سردية شفافة، لا تملك وأنت تقرأ إلا أن تتوقف عند زوايا معتمة من الحياة، تشعلها المفارقة أو تنهض بها جملة حوارية خاطفة.
القصص القصيرة التي حضرت بوضوح في هذه المجموعة، تُبرز براعة الصقري في التقطير السردي، وقدرته على اقتناص اللحظة الإنسانية المكثفة دون أن يقع في فخ التقريرية أو التجريد المجاني. إنه يعرف تماماً متى يتوقف، ومتى يترك للمتلقي حرية التأويل.
في قصة «العمل» (كان كثير الكلام عن الواجبات؛ وحينما عين مسؤولا ظل صامتا).
في قصة لا تتجاوز سطرين، تنهض هذه الومضة على المفارقة الصادمة، وتختزل مأساة الإنسان حين تنقلب أدواره من واعظ إلى صامت، من ناقم على تقصير الآخرين إلى شريك صامت في تكرار الأخطاء نفسها، أو ربما أسوأ.
أسلوبياً، تتكئ القصة على توتر لغوي بالغ الكثافة لا زوائد، لا تفاصيل، فقط مفصلان: كان كثير الكلام، وظل صامتاً. بين هذين القطبين يُبنى جسر المعنى، وتُضاء فجوة الخيبة.
هي قصة تتكلم وتخاطب القارئ من خلال الصدى النفسي لما لم يحدث.هنا يلوح ظل كافكا، وربما غسان كنفاني في «رجال في الشمس».
أذكر أنني تطرّقت في مقالة سابقة قبل إصداره هذه المجموعة إلى تجارب بعض كتاب القصة في المنطقة «حائل» ومنهم الراحل جار الله الحميد، ورشيد الصقري. واليوم أجد أن هذه المجموعة لا تزال تقف شاهداً على أن القصة القصيرة - متى ما كانت مشغولة بحسّ إنساني عميق، ووعي فني دقيق - فإنها لا تحتاج إلى الصخب، بل إلى الصدق.
في قصة «بدوي عاشق»ص73» في كل ليلة يصعد ذلك الكثيب الرملي ويبدأ العزف على ربابته مطلقا نظره نحو القمر حتى يتسلل ضوء الصباح ثم يعود للقرية. كل أهل القرية يعرفون قصة عشقه للصحراء.. إلخ».
وكأن البدوي لا يسمح للنور أن يفضح عزفه، أن يقتحم عليه طقسه، فينزل عائدا إلى القرية لكنه لا يعود مهزوماً، بل مكتملاً، لأن أهل القرية جميعا يعرفون: «قصة عشقه للصحراء.» والقصة تستبطن معنى الحب غير المشروط، الحب الذي لا ينتظر مقابلاً.
البدوي لا يعزف ليستجدي شيئًا، بل ليؤكد انتماءه. هو عاشق لا لحبيبة غابت، بل لصحراء لا تغيب، لكن حضورها فادح في غياب الكلام.
فالقصة القصيرة هي الكلمة إذا تجلّت في أضيق حيز، والفكرة إذا تكسّرت على صفحة واحدة كمرآة ترى بها الحياة من خلال شروخها الدقيقة.
القصة القصيرة هي تلك اللحظة المراوغة التي لا تمكث طويلاً، لكنها تظلّ في الذاكرة كندبة بل هي وميض البرق في صحراء المعنى، حين لا يُضيء كل شيء، بل يفتح العين على الغامض، على الموارب، على ما بين السطور.
للنظر من ثقب صغير إلى اتساع الوجود، فيها يتكثّف الشعور، وتتجلى الفكرة، ويقف الزمن قليلا ليستمع إلى همسة كاتب تسرّبت من قلبه إلى الورق.
وفي ص 77 قصة بعنوان سعادة «استيقظ مبكرا على غير عادته، شعر بسعادة تغمره، ثم دلف إلى شرفة منزله، استنشق نسيم الصباح المشبع بالرطوبة، فأشعل سيجارته خلق دوائر من الدخان.. تذكر أنها قرأت عليه البارحة قصيدة غزل، نظر الى طائره الحزين في القفص فقال له:انتظرني. سأحضر لك أنثى» :في هذه القصة ثمة خفة وجودية تخترق نسيج هذه القصة القصيرة، تكاد تكون ومضة سردية تنفتح على مشهدية يومية تتخفّى تحت بساطتها انفعالات معقدة للذات الإنسانية. تبدأ القصة بحدث عادي-رجل يستيقظ باكراً-لكن هذا الحدث ينفلت من رتابته حين يقترن بحالة شعورية غير مألوفة: السعادة هنا، تبدأ اللغة في التواطؤ مع المعنى، فالسعادة ليست نتيجة لسبب محدد، بل هي مباغتة، طارئة، وربما غامضة.
«تذكر أنها قرأت عليه البارحة قصيدة غزل» الذاكرة هنا ليست مجرد استدعاء لحظة حميمية، بل هي عماد الشعور بالحياة.
نجد أن من يكتب القصة القصيرة لا يملأ الصفحات، بل يختصر الطريق إلى القارئ، يترك له مفتاحا صغيرا ليطرق أبواباً كبيرة.وهذا هو عصر السرعة وعصر الاختصار.
وهكذا الصقري في مجموعته هذه ولا غرابة في هذا وهو يقول: إنه تلميذ عراب القصة السعودية جار الله الحميد - رحمه الله.
** **
- براك البلوي