مرحباً أنا لويز..
أهوى المغامرة والشقاوة والتحدي، وعمل المقالب الظريفة أحياناً، مثلما قد أفعل مع المتزلجين على المنحدرات الجبلية، والجامدة جداً أحياناً أخرى، والتي يصفها رفيقي في المغامرات أخي المقرب فرانسوا بأنها لا تليق بسني ورقتي وجمالي؛ فقد اجتمعت فيّ حرارة النار التي خلقنا منها، وبياض الثلج الذي نعيش بين أعطافه على قمم جبال الألب الخلابة، ولكن معظم استقرارنا على أعلى قمة في السلسلة، الجبل الأبيض الرابض بجلال وجاذبية ووقار، لا تليق إلا به، ملك السلسلة الجبلية، شديد الهيبة والوسامة معاً.
ورغم أن الناس بالطبع لا يمكنهم رؤية جمالي الباهر وبالتالي مغازلتي، أو إسماعي عبارات الإطراء المهذبة، لكنني أحب كثيراً التواجد بينهم، وبالذات السياح الزائرين للمدينة الصغيرة ميجيف التي يحتضنها الجبل الأبيض بكل أمان وسعادة، فأكتفي وأنا مأخوذة بمراقبة مجموعات السياح وجلبتهم ولغاتهم وسحناتهم المختلفة، وهم يرتادون المقاهي والمطاعم التي تفوح منها روائح ذكية للأجبان الفرنسية الساخنة.
أخذني أخي فرانسوا معه مرة لساحة فسيحة جداً، يتنفس فيها المكان فخامة ويرتدي ترفاً ونعيماً، حيث اجتمعت فيه سيارات كثيرة وهي من أثمنها وأغلاها، وكأنها قصور مصغرة، متنقلة على عجلات قوية، وأخذ فرانسوا يستعرض مخزونه المعرفي ليحدثني عن البورشة و البوغاتي و اللمبرجيني وغيرها، و أنه كلما ازداد نوع السيارة قدماً ارتفعت قيمتها و فرصتها في الفوز في المسابقة السنوية للسيارات الفارهة Megeve Concours d’ Elegance.
لم نكتف بمشاهدة السيارات البديعة فحسب، بل استفدنا من طبيعتنا غير المرئية للبشر، ومنحنا أنفسنا بكل كرم وجود امتيازات حصرية، فاستمتعنا بالجلوس على المقاعد الجلدية الفاخرة، والعبث بمرح بإطارات القيادة والشاشات العالية التقنية.
انتهزت فرصة انشغال أخي فرنسوا بالتنقل من سيارة إلى أخرى، وأشعلت سيجارة من العلبة الموجودة أمامي والتي لم أستطع مقاومة إغرائها وأنا داخل أغلى سيارة معروضة في المكان، استمتعت بسحب الأنفاس ببطء وهدوء وأنا أستمع إلى إحدى أغنيات لارا فابيان بصوت خفيض.
جذب انتباهي فجأة وجود هدية مغلفة بعناية، فلم أتوان عن الإسراع بفتحها!
واو! زجاجة عطر أنيقة جداً، ولابد أنها غالية الثمن، لا بأس من بعض الزخات العطرة لمزيد من المتعة أثناء تدخين السيجارة اللذيذة!
قطعت علي عودة أخي المفاجئة خلوتي المجنونة وتفاجأ بالسيجارة تتراقص بين شفتيً وبالبقع اللعينة التي سببتها برعونتي على الجلد الفاخر فقرر عقابي بسجني في أحد الفنادق في ميجيف، أخذته الرأفة بي ورقَّ قلبه الطيب فاختار لي أفخم فندق يطل على السيد الوقور الجبل الأبيض، وكأنه قاض شديد سيراقبني ليل نهار في مدة اعتقالي.
سرني أني لم أكن وحيدة في الغرفة البهية، فقد كانت مشغولة بإحدى السيدات وبدأ فضولي في التو واللحظة بمراقبتها. فبدت لي أنها في العقد الثالث، رشيقة وجميلة جداً، ولكنها كانت حريصة على ذلك الجمال الباهر، تصونه و لا تتباهى به أمام الآخرين كما تفعل السيدات اللاتي في جمالها أو حتي من يملكن نصف ما كان لديها من حسن طبيعي وجاذبية آسرة، فلم أر أثراً لأي مساحيق التجميل ولا أقل القليل، حتى ولا كحل و لا أحمر شفاه، كأنها تنتظر فارسها لتمتعه بكنوزها المحفوظة له وحده.
حاولت في الليلة الأولى أن أجرب مزاحاً لطيفاً معها عندما رأيتها تتهيأ للنوم، بإطفاء النور الخافت بجوار سريرها، فتمتمت بلغة لم أفهمها وأشعلت الضوء مرة أخرى... تركت الضوء للجميلة واختبأت في خزانة الملابس أجرب لعبة أخرى، بفتح إحدى الدرفتين وإعادة إغلاقها محدثة صريراً مزعجاً لا يمكن تجاهله.
كم أغاظني أنها لم تأت لتحري الأمر، إذن هي من الجميلات ثقيلات الدم اللاتي لا يحببن المرح والمزاح! ولكن لم تمر لحظات حتى بدأت بسماع صوت رجالي رخيم، في الأغلب أنه من هاتفها الجوال، يقرأ عبارات باللغة التي تمتمت بها المرأة قبل قليل، يا إلهي كم كان صوته مهيباً وأحسست بشعور غريب لم يغامرني في حياتي قط، لا أعرف كنهه ويصعب وصفه!
بعد ثوان قلائل شعرت بقوة خفية تجذبني خارج الخزانة وتطردني بشدة باتجاه الباب!
هل تحول المزاح إلى جد وانقلب السحر على الساحر؟
تمسكت بشدة بمقبض الباب لا أريد الخروج ولا استعادة حريتي، ولا الانعتاق من الحبس الإجباري الذي وضعني فيه فرنسوا، لأن الصوت العذب بدأ في القراءة بلغتي الفرنسية تلاوة لامست شغاف قلبي وملأته نوراً:
«قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِن شَرِّ الوسواسِ الخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ».
** **
- نادية خوندنة