ما كانت السيدة هاجر لتعلم أن سعيَها بين هذين الجبلين سيكون نُسُكًا أبد الدهر.
ولا كانت «جرهم» لتدرك أن صرخات ذلك الطفل الذي يستغيث عطشا سيُجرِي اللهُ -استجابة لصرخاته- بئرًا تفيض ماءً إلى قيام الساعة.
وما كان ذلك الطفل القرشي الذي وُلد هاهنا، ليظن أن تلك البقعة ستشهد انطلاق رسالة، حاملا معها نور الحق إلى العالم أجمع.
وما كان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما يرفعان القواعد من البيت، ليعلما أن الله سبحانه وتعالى سيجعل ذلك البيت مهوى الأفئدة.
وما كان إبراهيم – عليه السلام - ليفهم أن أذانه -الذي أمره الله به- سيلبيه الجميع، وسيسمعه الكل، حتى النطف في الأصلاب.
إنها مكة، خاصرة الدنيا، ومركز الكون، وادٍ غير ذي زرع، لكنه أصبح مهوى الأفئدة، وملاذ النفوس، فقد شرّفها الله:
«إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا»
تكاد وأنت تتجول في طرقات مكة، وتمر بأزقتها تشتَمُّ عبق النبي صلى الله عليه وسلم، وتستنشق أريج صحابته، تتلمس الجدران، وترى الجبال، فتحس بأمان عالٍ، أنّ نبينا صلى الله عليه وسلم استند إلى هذا الجدار، وسلك ذلك الشِّعْب، وصعد هذا الجبل، وجلس هنا، ومر من هناك، ووقف هنالك، ولسان حالك يقول: مرّ، وهذا الأثر.
يا مكة يا أم الدنيا
يا أول بيت في القدم
يأتيك الراكب والساعي
من أقصى الأرض على قدم
فقلوب العالم قاطبة
تهفو للبيت المحترم
إنها مكة التي تجسّدت فيها عبقرية المكان، فقد تلقّى الناس فيها أروع دروس الحب في الارتباط بالمكان، حين خاطبها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مهاجر مرغَمٌ:
(والله إنَك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني ما خرجت).
ما أنْ تغادرها حتى يلاحقك ذلك السؤال الأبدي: متى العودة؟
حنينٌ جارف تجاهها، يغزو قلب كل مسلم، ولا يروي نهمه منها، مهما بقي فيها، ومهما عاد إليها مراتٍ، ورجع إليها كرّاتٍ، وآبَ إليها تاراتٍ.
تنظر إليها عبر الشاشات؛ إذ يكسوها ذلك البياض الذي يعكس نفوسًا نقية ارتدته، نفوسٌ ما خالطها رياء، ولا شابتها سمعة، وإنما حُبٌّ خالص لله توطّن، ولرسوله استقر، وارتباط وثيق بالمكان.
إنها مكة، بقعة قيَّض الله لها مَن يرعاها من حكام مخلصين، في هذه البلاد الطيبة التي ضمتها، فأضافوا لطابعها المقدس طابعا حضاريا معماريا زاهيا، جعلها تبزُّ كل المدائن، وتفوق كل الأماكن.
** **
- طارق يسن الطاهر
Tyaa67@gmail.com