توطئة:
(عالمك الشعري فضاءات حالمة وأخاذة، وفي لغتك موسيقى شفيفة، عرفت فيك الناقد، ولكن ناقدك لم يقتل شاعرك، هذه معادلة صعبة وليس من اليسير تحقيقها)
د. عبد الله الغذامي مخاطباً د. رسول عدنان
مخترع قصيدة النثر
ألوسيوس برتران (1807- 1841)
ومنهم من يلفظ اسمَه بزيادة حرف الدال أي برتراند وهو لويس جاك نابليون برتراند، المعروف باسم مستعار ألويسيوس برتراند، هو شاعر ومسرحي وصحافي فرنسي الأب وأمه إيطالية، قضى حياته بين ديجون وباريس، هو مخترع قصيدة النثر الحديثة، من خلال نصّه أو ديوانه جاسبار الليل، في هذا الكتاب ستة أقسام، في كلّ قسم، عدد من القطع النثرية تحتوي على الشحنة الشعريّة، وفي القطعة عدد من الفقرات بين الواحدة والأخرى فراغ واسع أبيض، ترك (برتران) تعليمات للمطبعة أن تحافظ على هذا الفراغ، بعد وفاة برتران بعام واحد، تم طبع هذا الديوان وقد أخذ صاحب دار النشر بالتوصيات التي تركها له برتران وطبع الديوان عام 1842 في باريس، وكان قد شرع فيه عام 1835، عندما سُئل برتران عن هذا الديوان وصفه بأنه (فانتازيا متحررة من القيود التقليدية على طريقة رمبراندت ودو غالو).
يبدو أن بودلير كان أول المعجبين بكتاب برتران الذي أطلق عليه اسم (قصيدة نثر) poème en prose وحاول أن يسير على نهجه، ففي رسالة بعث بها إلى رئيس تحرير مجلة باريسية، يبدي فيها إعجابه بعمل برتران، يصف قصيدة النثر بأنها عمل لا رأس له ولا ذَنَب لكنه (نثر شعري فيه موسيقى دون إيقاع أو قافية، يتكيّف مع حركات النفس وتقلّبات أحلام اليقظة)
و في هذا يقول بودلير)، «عند تصفحي - للمرة العشرين، على الأقل لـ «جاسبار الليلي» الشهير لآلويزيوس بوتران... واتتني فكرة محاولة شيء على مثاله، وأن أطبق على وصف الحياة الحديثة، أو - بالأحرى- على حياة واحدة حديثة وأكثر تجريداً، النهج -التصويري بشكل غريب - الذي استخدمه في رسم الحياة القديمة»؛ ذلك ما كتبه «بودلير» في إهداء Dédicace إلى «أرسين هوسايي»، الذي نشر في «لا بريس La , Presse ) كما ذكرت سوزان برنار»، عام 1862- وهكذا كتب بودلير ديوانه سأم باريس على غرار جاسبار الليل لبرتران وتبعه رامبو في إشراقات رامبو ثم مالارميه في قصيدته رمية نرد وهكذا انطلقت قصيدة النثر الفرنسية من فرنسا إلى أوروبا إلى العالم وهي تحمل ستة شروط أو سمات أو ميزات، المهم هنالك ست نقاط يجب أن تتوفر في النص حتى يكون قصيدة نثر وهذه الشروط أو سمّها ما تشاء هي:
1 - تكتب على شكل مقال أو كتلة وقد تنزلق بعض أجزائها إلى التشطير.
2 - تستخدم اللا غرضية أي لا تتحدد بأغراض معينة والعشوائية من حيث اختيار الألفاظ والصور بشكل غير انسيابي.
3 - المجانيّة بمعنى اللازميّة.
4 - المجازية والتكثيف الصوري وقصر الجمل بلا استرسال أو إسهاب
5 - استخدام الأقواس و الفراغات و علامات التنقيط أي كل ما يتعلق بسيميائية الشكل.
6 - تكتب بلا وزن و لا قافية.
هكذا بدأت قصيدة النثر بنسختها الفرنسية، وهكذا يجب أن تكون وأن تكتب، وفي هذا يقول د. فاضل العزاوي منظر جماعة كركوك (فما دُمنا نعيشُ في زمن تنهدم فيه الحدود باستمرار بين الثقافات وما دمنا قد اقتبسنا مصطلحيّ الشعر الحر وقصيدة النثر من الثقافة الأوروبيّة ولم نستخرجهما من تراثنا الخاص مثلاً، فإنّه يصبح ضرورياً الالتزام بمعناهما المحدد شعرياًّ وثقافياً بدل مواصلة المزيد من الالتباس وسوء الفهم).
لكن الدور التخريبي الذي قامت به جماعة مجلة شعر وعلى رأسها أدونيس إنّهم لم يقتفوا الطريقة الفرنسية الأصلية في كتابة هذا الوليد الجديد في الشعر العربي، بل كتبوها بشكل خاطئ وبعيدٍ كل البعد على النسخة الفرنسية، وممّا أدى إلى تعميق هذه الانتكاسة هو إطلاقهم مسمى خاطئ تماماً حول طريقة كتابتهم الجديدة فأطلقوا تسمية قصيدة النثر على النوع الذي كتبوه وهو لا يمتّ بأيّ صلة إلى النسخة الفرنسية من قصيدة النثر، وهكذا شاعت التسمية الخطأ والصياغة الخطأ بسبب أدونيس وجماعة مجلة شعر والذين أعطوا لأنفسهم حق إعلان انطلاق قصيدة النثر الخاطئة في بيانهم الشوفيني عام 1960، وهنا استعين بتعريف سكرتير مجلة شعر نجيب الريّس في كتابه آخر الخوارج إذ يقول (يبقى دور مجلة شعر في الثقافة العربية، وهو في رأيي دور مبالغ فيه، دور اخترعه الذين كانوا خارج مجلة شعر، ودور عزَّزّه أعداؤها لتكبير دورهم، ودورٌ ضخّمه الجيل الذي لم يعاصرها، دورٌ اصطُنع لها في عصر خَبَتْ فيه أنوار ثقافية كثيرة، مع نمو حركة الشعر الحديث، وتكاثر الشعراء الجدد، اصطُنع لمجلة شعر هالة لم تكن لها، ولا أعتقد أنّ مؤسسها طمح إليها أو أرادها، إنما أرادها شعراء الحداثة الجدد)؛ إن ما يكتب الآن من كتابات على أنّها قصيدة نثر في الحقيقة ما هي إلا خاطرة أو نستطيع أن نضع لها مسمى (الخاطرة الجديدة) لا أكثر، وليس لها آية علاقة بقصيدة النثر مطلقاً، بل لم تلامس حتى قشرها الخارجي، وإنني لأعزو إشاعة هذه المفاهيم الخاطئة في كتابة قصيدة النثر إلى ثلاثة أسباب:
1 - جماعة مجلة شعر وعلى رأسهم أدونيس.
2 - أميّة مَن يتعاطون كتابة الشعر.
3 - أميّة الباحثين في النقد وهم ليسوا نقاداً ولا علاقة لهم بالنقد.
هذه الأسباب التي قادت إلى استفحال المفاهيم الخاطئة لكل ما يتعلّق بقصيدة النثر، فأصبحت هذه الأخطاء المتراكمة عبارة عن سرطان في جسد الشعر العربي الحديث، إنّ من كتب قصيدة النثر على الطريقة الفرنسية عربيّاً هم ثلاثة أشخاص فقط: (حسين مردان في الأرجوحة هادئة الحبال، أنسي الحاج في الوليمة، رسول عدنان في إلى ملكة بابلية).
أمّا جماعة كركوك فإنّهم قد طوروا مشروع حسين مردان الذي بدأه في قصيدة النثر عربيّاً لكن ثقافتهم الإنكليزية جعلتهم يبتعدون إلى الشعر الحر على غرار جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ، فجاء شعرهم بين قصيدة النثر مستوفياً بعض شروطها وبين الشعر الحر في بعضه الآخر، حتى التبس عليهم الأمر، ففي اتصال أجراه الشاعر الكبير صلاح فائق بي- وهو واحد من أربعة أبرز أسماء في هذه الجماعة- قال لي (إنّني أخشى أنّني لا أكتب قصيدة نثر).
وفي ضوء ما تقدم نخلص، إلى أنّ كتابة قصيدة النثر بنسختها الأصلية، كتابة صعبة، وليست سهلة كما يعتقد بعضهم والذين يتوهون كتابتها هي ليست قصائد نثر، لكن في الحقيقة هم لا يكتبون إلا الخاطرة الجديدة فقط، ومن هنا جاء موقف الدكتور عبد الله الغذاميُّ حول صعوبة قصيدة النثر.
الغذاميُّ وقصيدة النثر
في لقاء تلفازي في برنامج سؤال مباشر على فضائية العربية، تطرق الدكتور الغذامي إلى قصيدة النثر، حيث قال (إنّني أقرأها وأتذوقها وأقدر كتابها لكنّني لم أكتب عنها أبداً، إنّ قصيدة النثر أصعب أنواع الشعر، لكنّي لم أدخل إليها لأنّني أخشى أن أظلمها، سمعت بعض قصائد نثر من النوع الجيد، لكن أكتب عن قصيدة النثر أم لا أكتب، إلى الآن لم أقرر أن اكتب، لأنّ هيبة النصّ ووجود غثاء كثير، وإمّا أن تدقنها جداً أو في الحضيض)، هذا الرأي قاد إلى ردّة فعل وصلت إلى اتهامه بالتوتر بين الذائقة الحداثية وبين المرجعية التقليدية، على أنّني أرجعُ هذا الامتناع - على الأقل إلى الآن- إلى سببين أساسيين هما:
أولاً: صعوبة قصيدة النثر والتي وضّحناها في شروطها أو سماتها الستة.
ثانياً: وجود غثاء كثير لا علاقة له بقصيدة النثر وهذا أيضاً يتفّق مع ما ذهبنا إليه في هذا المقال.
وبما إنّ الرجل قد ترك الباب مفتوحاً بقوله (أكتب أم لا أكتب إلى الآن لم أقرر) فهذا يبعد عنه تهمة التردد النقدي بسبب فلسفته للنسق الثقافي، كما ذهب بعضهم، ولا أرى في امتناعه عن الكتابة عنها- على الأقل إلى الآن- بسبب النزعة بين الحداثوي والمرجعيات التقليدية، حيث صوّروا الرجل وكأنّه بدا في صراع ثقافي أدبي نفسي، بينما لا أرى في تردده هذا غير ما أسميّه انتظار انحسار هذه الموجة من اللا شعر واللا قصيدة نثر والتي سمّاها الغذامي (بالغثاء الكثير)، حتى يفرز الغثّ من السمين، فليس من المنطق ولا من المعقول، أنّ ناقداً بثقل الدكتور عبدالله الغذامي يكون متردداً في تحليل نص من قصيدة النثر، لكنّ مفهوم الأزمة في الخطاب النقدي مرّده إلى أنّ الكثير من الباحثين في النقد الذين تورطوا في الكتابة عن الغثِّ والركيك من النصوص وعرّضوا أسماءهم وسيرتهم العلمية وتأريخهم الأدبي إلى عدم المصداقية، ومن هنا يأتي التوّجس أو مفهوم الظلم الذي تحدّث عنه الغذامي بقوله (أخشى أن أظلمها)، الغذاميّ ناقد حداثوي وقصيدة النثر هي شعر حداثوي، فلا أرى أيّ سبب يدعو ناقداً بثقله إلى التردد، وما أظنّه إلا الانتظار.
إن تجارب نقدية قريبة من تجربة الغذاميّ قد تورطوا في الكتابة عن الكثير من الغثاء، بسبب المجاملات، فظلّت كتبهم مركونة على الرفوف وبلا قيمة، لأنّها لم تنصرف إلى النص، بل إلى صاحبه، وهذا ما لا يمكن أن ينزلق إليه الناقد العربي الوحيد وصاحب نظرية النقد الثقافي الدكتور عبدالله الغذامي، لذلك اختار الانتظار والوقت المناسب حتى يقرر، وعندما يقرر الغذاميّ أن يكتب، سيكتب عن النص وليس عن صاحبه، ويكتب عن الشعري فيه وليس عن الغثاء، وهذا دليل عملي عن رأي الغذامي، لقد قرأ الرجل بعضاً من قصائد النثر التي أكتبُها، والتي أتوخى كتابتها على الطريقة الفرنسية أي على غرار الأصل على طريقة برتران وبودلير وحسين مردان، فهزّت هذه القصائد ذائقة الغذامي النقدية فكتب إليّ قائلاً (عالمك الشعري فضاءات حالمة وأخاذة، وفي لغتك موسيقى شفيفة، عرفت فيك الناقد، ولكن ناقدك لم يقتل شاعرك، هذه معادلة صعبة وليس من اليسير تحقيقها)، أليس هذا رأياً نقدياً وفي قصيدة نثر؟ فمن هنا أدعو كل مَن كتب مقالاً أو مدوّنة إلى إعادة النظر فيما كتب حول موقف الدكتور عبدالله الغذامي من قصيدة النثر؟
** **
د. رسول عدنان - أمريكا