عرفت العرب الأدب الساخر منذ عصرهم الجاهلي، لكنه تمثل في شعر الهجاء ولا شيء غيره، ولأن بيئتهم بيئة قاسية، بيئة جافة في أغلبها، فقد ارتكزت سخريتهم على محاور معدودة منها:
الطعن في النسب، والبخل، والذلة والهوان، ونذكر من هذا الهجاء:
هجاء الأعشى لعلقمة بن عُلاثة بالبخل:
تَبِيتُونَ في المَشْتَى مِلاءً بُطُونُكُمْ
وَجاراتُكُم غَرْثى يَبِتنَ خَمائِصا
ومِن أبرز الهجائين في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام، الحُطيئة الذي ما ترك أحدًا إلا هجاه حتى إنه هجا أمه وأباه، وفي الأخير هجا نفسه:
أَرى لِيَ وَجهًا شَوَّهَ اللَهُ خَلقَهُ
فَقُبِّحَ مِن وَجهٍ وَقُبِّحَ حامِلُه
وفي العصر الأموي اشتد الهجاء كثيرًا، فخرج لنا منه فن شعري جديد هو: فن النقائض، وهي قصائد كلها فخر وهجاء، وأشعل نار هذه النقائض سنين عديدة، كبار شعراء العصر الأموي: الفرزدق وجرير ودخل على خطهم، الأخطل الذي هجا جرير حتى أبكاه، بقوله:
قومٌ إذا استنبحَ الأضيافُ كلبهُمُ
قالوا لأمّهِمِ: بُولي على النّارِ
فتُمْسِكُ البَوْلَ بُخْلاً أنْ تجودَ بهِ
وما تبولُ لهم إلا بمقدارِ
وعدَّ كثيرٌ من النقاد هذين البيتين أهجى ما قيل في الشعر العربي، لأسباب منها: أنه هجاهم بالبخل، وأن أمهم بخيلة، وأنهم (عاقون) أمهم فهم يأمرونها، وأنهم ليس عندهم خادم مخافة أن يعطوه أجرته، وأن نارهم نارٌ صغيرة تطفئها بولة عجوز، ومع ذلك أمهم لا تبول إلا بولةً قليلة، لأنَّ نارهم صغيرة.
وفي العصر العباسي ظهر لنا الأدب الساخر بشكل أكثر وضوحًا وكان من أعمدته، الأديب الكبير: الجاحظ الذي يعده كثير من النقاد مؤسس الأدب الساخر في الأدب العربي، وظهر لنا أسلوبه الساخر في كتابه الشهير: البخلاء، وفيه صوَّر لنا الجاحظ بقلمه البخلاء، وحياتهم ونفسياتهم، وطباعهم، وحرصهم الكبير على المال بأسلوب كله ضحك وسخرية منهم ومن طباعهم…
ونلحظ أيضًا تطورًا كبيرًا في الأدب الساخر في مجال الشعر، وما هذا إلا لعوامل كثيرة من أهمها التطور الكبير، والانفتاح على حضارات أخرى مختلفة، فبرز عدة شعراء في الشعر الساخر منهم: ابن الرومي الذي اعتمد في هجائه على شكل المهجو وعيوبه الخلقية:
لك أنفٌ يا بن حربٍ
أنِفتْ منه الأنوف
أنتَ في القُدسِ تصلي
وهو في البيت يطوف
وفي العصر الأندلسي برز لنا ابن زيدون، كأحد كبار الكُتَّاب الساخرين من خلال رسالته الهزلية التي كتبها على لسان ولاَّدة لابن عبدوس، وسخِر فيها من شكله وأخلاقه وطِباعه وتفكيره…
وفي العصر الحديث تطور مفهوم الأدب الساخر وتشكل، ليكون فنًا أدبيًا مُستقلاً، له أهدافه ووظائفه التي تعدت ذلك المفهوم الضيق الذي كان ينحصر في الهجاء أو الضحك من الشكل، ليكون أدبًا راقيًا من أهدافه: نقد السلبيات الموجودة في المجتمع، بل تطهير المجتمع من معايبه وتناقضاته بلغة ساخرة مليئة بالضحك، لكنه ضحك يميل إلى البكاء!
وقد كثرت تعريفات الأدب الساخر لدى النقاد والباحثين، ويمكننا أن نُعَرِفه بأنه: نوع أدبي راقٍ، يعتمد في أساسه على انتقاد معايب الفرد والمجتمع بأسلوب ضاحك، بهدف التقويم والإصلاح.
ورغم أنَّ الأدب الساخر مما تميل إليه النفس كثيرًا، بل تبهج به، كونه يُعدُ تنفيسًا لها من همومها وآلامها، إلا أن من كتبوا فيه وأبدعوا يُعدون قِلَّة مقارنة بالأنواع الأدبية الأخرى، وذلك يعود إلى عوامل متعددة، منها: طغيان المذهب الرومانسي في مطلع عصر النهضة، ومع ذلك فقد ظهر أدباء كبار في الأدب الساخر، بل برزوا فيه، ومنهم صاحبنا في هذه المقالة: الدكتور زكي مبارك.
والدكتور زكي من كبار أدباء العصر الحديث، وِلِد عام 1892 في قرية سنتريس، درس في بداية تعليمه في الأزهر، ثم انتقل للجامعة المصرية، فتخرج فيها، تعب على نفسه كثيرًا لدرجة أنه حصل على ثلاث شهادات دكتوراه، واحدة منها من جامعة السربون، وكانت بعنوان (النثر الفني) سطع اسمه في عالم الأدب بين عمالقة الأدب العربي الحديث، وقال عنه بعض النقاد: إنه صاحب أفضل أسلوب أدبي في العصر الحديث، عشِق العربية، فكافح من أجلها وصال وجال، عُرِف بكثرة معاركه الأدبية، فَلَقَبه الزيات صاحب مجلة «الرسالة» بالملاكم الأدبي، كتب في كبار المجلات الأدبية، له عدد من كبير من المؤلفات منها: النثر الفني، الأسمار والأحاديث، مدامع العشَّاق، الأخلاق عند الغزالي، وحي بغداد، ليلى المريضة في العراق، ذكريات باريس، وديوان شعري بعنوان: لحن الخلود و… وبالرغم من حصوله على ثلاث شهادات دكتوراه، وإنتاجه الأدبي الغزير إلا أنه عانى الظلم والاضطهاد من مجتمعه الذي لم يُقَدِر شهاداته ومؤلفاته، ومقالاته التي كان ينتظرها القراء بكل شغف، توفي رحمه الله عام 1952 بعد رحلة طويلة خَدم فيها اللغة العربية ونافح من أجلها.
ارتبطت السخرية عند زكي مبارك بمجتمعه، فقد استخدم أسلوبه الساخر لنقد عدد من التناقضات، والغرائب، والمعايب التي يراها أمام عينيه، وكانت سخريته مثل السلاح الناعم، يحارب به سلبيات المجتمع بلغة أدبية كلها خفة ورشاقة، فيها كل ما يبحث عنها القارئ من متعة وإقناع!
وأهم الظواهر التي حاربها زكي مبارك في مجتمعة كانت ظاهرة (النفاق).
«كيف فاتني أن أُنافق في زمنٍ لا يسود فيه إلا أهل النفاق؟!» هو هنا لا يريد أن يكون منافقًا، لكنه يريد أن يمرر لنا رسالةً يقول فيها: إن المنافقين قد كثروا في المجتمع، بل وصلوا إلى مراتب كبيرة! وعن المنافقين أيضًا يعرض لنا صورةً أخرى، فيقول: «عندما كنت مفتشًا، زرت مدرسة قال لي مديرها: إن التلاميذ كانوا يتطلعون من النوافذ، ليمتعوا عيونهم بطلعة سعادة المفتش، ومن مزايا التفتيش أن يحفظ التلاميذ قصائدي، وهذا من لباقة المدرسين»
ثم هو يهجو نفسه، لكنه يريد أن يمرر رسالة إلى ذلك المجتمع الفاسد، عندما يقول: «ولكن ماذا أصنع وأنا لا أخلو من لؤم ومن حقي أن أستفيد من فساد المجتمع».
وحتى وهو في غربته يسخر من بني قومه، ويتهكم بهم ويمرر لنا هنا رسالةً بأنهم في الغربة بينهم ما بينهم!
«كنت أظن المصري للمصري كالبنيان المرصوص»
ويواصل سخريته بمجتمعه وأصدقائه «وأستطيع أن أقول إن حراسة الغنم أسهل من حراسة الأصدقاء، وقد خلق الله لكل صديق أذنان طويلتان،» تهكم مؤلم وسخرية كالبكاء من الأصدقاء الذين ينمُّون ويغتابون أصدقاءهم!
وفي سخريته من أهل الرياء، فإنه ينحرهم هنا بسكين هي أنعم من الحية الرقطاء: «أعظم لذة أن يعذب لسانك في حضرة امرأةٍ حسناء، والكلام في هذا يسهل على بفضل ما ابتلاني به الدهر من معاشرة أهل الرياء».
ويواصل انتقاداته الساخرة من فساد مجتمعه، قائلاً:
«إن الشيطان يجد له مراتع في مصر لم يجدها في لندن وباريس».
ونراه يستمر في سخريته من مجتمعه، ولكن هذه المرة من أولئك الذين يخدعون المرأة باسم الحب، وهم لا يريدون منها إلا المتعة العابرة، ثم هم يتركونها، هؤلاء يصفهم زكي مبارك بطريقته الساخرة بالحيوانات «كنتُ أستطيع أن افترس ليلى، كنت استطيع- كنت أستطيع، لكني خشيت أن تراني ليلى حيوانًا كسائر الحيوانات».
وكما ارتبطت السخرية عند زكي مبارك بمجتمعه، ارتبطت أيضًا بمعاركه النقدية، فقد استخدمها كأحد أهم أسلحته في القضاء على خصومه، ونأخذ أنموذجًا واحدًا على هذا: في معركته الشهيرة مع الكاتب الكبير أحمد أمين الذي قال: إن الشعر العربي في أكثره مديح وهجاء، وبذا يكون في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح، ثم إن أحمد أمين يستشهد بالأرقام، ويقول: إن عدد أبيات شعر المديح (124185) في مختارات البارودي وعدد أبيات الهجاء (1229) وإذا جمعناها فإنها تفوق الأغراض الشعرية الأخرى!
فينقض عليه زكي مبارك متأبطًا سلاحه الذي لا يستغني عنه (السخرية) ويرد على أحمد أمين بردٍ قاتل، فيقول: «وهذا أحمد أمين بقضِّه وقضيضه، هو أحمد أمين الذي يُدَرِس الأدب بالإحصاء، والذي يقيس الدواوين الشعرية بالمتر والباع والذراع!
لقد كنت أحفظ مختارات البارودي، ولم يخطر لي أن أعدها، فهل نستطيع اليوم أن نقول لأحمد أمين: أفادك الله…».
وبهذا الأسلوب الساخر يتمكن زكي مبارك من الانتصار في هذه المعركة، ويصفِّق له القراء الذين تابعوا تفاصيل هذه المعركة في خمس مقالات متتابعة، مليئة بالردود المقنعة بأسلوب فني ساخر، أسكتت بعدها أحمد أمين!
لقد كانت السخرية عند زكي مبارك صفة لازمة لشخصيته، فلا تكاد تقرأ له مقالةً إلا وانتقد بأسلوب ساخر امتاز بالبساطة، وعدم العمق الذي يتعب معه القارئ، أسلوب سهل ممتنع فيه لباقة وأدب، يُحَوِّل الألم إلى بسمة، والحزن إلى فرح، وسخريته دائمًا ما تهدف إما إلى إصلاح مجتمعه، أو الدفاع عن اللغة العربية والكفاح من أجلها، ونرى أن أهم عاملين لكثرة السخرية في أدب زكي مبارك تعود أولاً: إلى شخصيته الظريفة المحبة للمداعبة والمزاح، وتحليل المواقف والشخصيات بدون إيذاء أو تجريح، وهذا يظهر لنا بوضوح في كتبه: (ليلى المريضة بالعراق- والأسمار والأحاديث- والبدائع).
وثاني هذين العاملين هو: شعوره بعدم تقدير مجتمعه له، والظلم الذي تعرض له خصوصًا عندما فُصِل من الجامعة فصلاً تعسفيًا، بعد أكان أحد أساتذتها الكبار، فعكس أوجاعه بالسخرية التي خلفها بكاءٍ عميق!
** **
- راشد بن محمد الشعلان
Rashedsh75@gmail.com