المنطلق هو الأساس الذي يكون نقطة البداية والرجوع النهائي وعتبة الانتقال إلى أمكنة أخرى، يجيء مفتوحًا ومترسبًا في النفس لأنه يمثل لحظة ضيق في حياة الرحالة، حينما يضطر للهجرة، أو البحث عن علوم أخرى، فغالبًا ما تظل نقطة الانطلاق حاضرة في ذهن الرحالة وماثلة في مخيلته عندما تشعر هذه الذات بالحنين إلى الوطن والديار أو تعاني من إعياء السفر، أو عندما تلاحظ أوجه الشبه أو الاختلاف بين ما تشاهده في فضاء الرحلة وما هو ماثل في النفس من صورة جميلة للوطن المنطلق.
فالمكان هو الإطار والوعاء والجسر حيث تغدو العلاقات معه نفسية وجدانية معقدة داخل بؤرة حنينيه تروي الأحداث وتلونها.
وقد تفاوت ظهور المنطلق في النص الرِّحْلي السعودي، فتارة يكون واضحًا محدد المعالم وتارة أخرى يشير إليه الرحالة إشارة عابرة، وتارة ثالثة يختفي الحديث عن المنطلق ولا نرى الرحالة إلا مسافرًا. ولا ريب في أن هذا الاختيار ذاتي من الرحالة نفسه، فهو الذي يحدد مكون رحلته، وقد تخفت صورة المنطلق وتختفي والسبب يعود إلى تقدم وسائل المواصلات وسرعتها في الوصول إلى مكان الرحلة، إذ تتضاءل فرصة الرحالة على التأمل في هذا الفضاء ووصف وقعه على وجدانه، وغالبًا ما يأتي الحديث عن المنطلق في بداية الرحلة ثم تتناسل صورته أحيانًا في تضاعيفها.
جاء الانطلاق في رحلة عبدالله الحقيل رحلات ومشاهدات في الوطن العربي والأندلس من مطار مدينة الرياض على متن طائرة حلقت فوق شعاب نجد وأوديته، حيث شكل هذا المنطلق الفخر والاعتزاز بالهوية الوطنية إذ يقول: «وفي الصباح فارقنا مطار مدينة الرياض على متن إحدى الطائرات السعودية التي كانت تسير بنا بين شعاب نجد وأوديته وجباله وقممه الشاهقة ورياضة الجميلة مرددًا قول أبي الطيب المتنبي:
إذا مضى علم منها بدا علم
وإن مضى علم منه بدا علم
ولكم توحي تلك المناظر بتاريخ عريق وما تزخر به ذكريات ومجد وخطوب وتاريخ خالد، وكانت الشمس في أوج إشراقها والسماء صافية الأديم تشرق على الهضاب والواحات والقرى والمراعي الخضراء والرمال والنخيل، الرمز الشامخ للجزيرة والخزامى والشيح والقيصوم والسدر والأثل والأقحوان وغير ذلك».
ولا ريب في أن هذه الصورة الفوتوغرافية الإيجابية التي صورها الحقيل وهو يتأمل معالم الرياض من نخيل وخزامى وقيصوم صورة تضيف بعدًا ثقافيًا يعكس الاعتزاز المتنامي بالهوية الوطنية التي نشأ فيها الحقيل.
ويستهل محمد عمر توفيق في رحلته من ذكريات مسافر حديثه عن الانطلاق مستحضرًا العبرة في فراق أرض الوطن حيث يقول: «عندما سحبت الطائرة عجلاتها من على الأرض خنقتني عبرة وأنا أتصور ترابًا أحبه وأحب ألا يوارى جسمي تراب سواه، والموت يخطر على البال في مثل دنيا الطائرة كما تخطر الحياة على البال كلما تمكن الإنسان من الأرض ومن التراب!».
فما أسرع الحنين إلى الوطن والأهل، ولا ريب في أن هذا المشهد الذي يصور فيه توفيق فراق الوطن والحنين إليه منذ إقلاع الطائرة من أرض الوطن والنفس تتهافت رقة وحنانا إليه لأنه يرى فيه الملاذ الآمن ويربط الطمأنينة بخلود الروح بعد الممات في تراب هذا الوطن.
أما في رحلة الرفاعي خمسة أيام في ماليزيا فإننا نجد خفوت رحلة الانطلاق وقد صرح الرفاعي إلى طول مسار الرحلة وما يصحبها من تعب وإرهاق وكذلك إيجازًا منه في الكلام إذ يقول: «هذه هي.. كوالالمبور.. عاصمة ماليزيا. أخيرًا وصلنا.
كانت الرحلة من جدة إليها متعبة جدًا.. استغرقت من صباح يوم الجمعة 1 جمادى الأولى (27 أغسطس) على مساء اليوم التالي (السبت)».
وتكشف عبارة الرفاعي التي تحدث بها عن مغادرته لهذا المكان عن انتزاع نفسه منه انتزاعًا إذ يقول: «كنت خلال ذينك اليومين مستوفر الشعور... لم يطل ليلي.. ولكن لم أنم.. إلا نعسات، يسيرات أسرقها من يقظتي...!
وفتحت عيني على الحياة والناس في العاصمة الماليزية..
وذكرني المنظر من حيث الناس بسوق الليل، وشعب علي بمكة المكرمة أيام الموسم».
إن النص السابق يكشف عن أن علاقة الرفاعي بالوطن علاقة روح وجسد وأن هذا الوطن هو الملاذ النفسي الذي يستند إليه وهو يضرب في الأرض، إنه يمثل وجوده الحميم، فالمنطلق جدة / الوطن تعيش في داخله بمقدار ما يعيش هو في داخلها.
لذلك نجد أن لحظة الانطلاق عند الرحالة السعوديين وثيقة الصلة بالوطن، فالوطن كان حاضرًا في الرحلة سواء في الانطلاق أو في بعض المواقف المعينة أثناء الرحلة فعلاقتهم بهذا الوطن كما يقول شعيب حليفي علاقة مركزية تسقط التباسها بعد مغادرته، فيصبح مرجعًا للمقارنة، وأفقًا للتذكر والحنين.
** **
د.فهد عدنان الشمري - دكتوراه بالأدب والنقد والبلاغة
Fahad2626