رئيس الوزراء الفرنسي الحالي، سيباستيان لوكورنو Sébastien Lecornu، الذي شغل عدة مناصب وزارية مهمة قبل توليه رئاسة الحكومة، أبرزها وزارة الدفاع في الفترة من2022 حتى 2025، أصدر كتابًا مثيرا للجدل عنوانه: أإلى الحرب؟ فرنسا في مواجهة إعادة تسليح العالم.
يستعرض هذا الكتاب: (صدر عن دار بلون Plonالفرنسية في 2024 في حوالي 288 صفحة) مكانة فرنسا على رقعة الشطرنج الجيوسياسية العالمية، ويتناول عددا من الموضوعات التي تفرض نفسها على الساحة الدولية: الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية والتنافس العسكري بين الدول وإعادة تشكيل مناطق التكتلات وطبول الحرب المستعرة على أبواب أوروبا منذ الغزو الروسي لأوكرانيا والممرات البحرية المتنازع عليها وعسكرة الفضاء والأزمات الإقليمية والدولية التي تتراكم بمعدلات مثيرة للقلق.
في هذا الكتاب، يطرح سيباستيان لوكورنو مجموعة من الأسئلة الهامة: هل نحن مستعدون لمواجهة هذه المخاطر؟ ما هي قدراتنا العسكرية والصناعية؟ وما الفائدة التي نجنيها من الأموال المستثمرة في المجال العسكري؟ هل مجتمعنا مستعد لتقديم التضحيات اللازمة لضمان إعادة تسليحه؟ ما الذي يمكن أن نتوقعه من حلفائنا؟ ما السيناريوهات التي يجب أن نخشى وقوعها؟ ومن أين تأتي التهديدات تحديدا؟
الوزير الأول، سيباستيان لوكورنو، يلفت الأنظار الى أنه في ظل التحديات غير المسبوقة التي تعصف بمستقبل القارة الأوروبية، تبدو قضية الأمن الجماعي الأوروبي وكأنها لم تشهد مثل هذا القدر من الجدل والنقاش الحاد منذ الحقبة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. فالمرحلة التي تمرّ بها القارة الأوروبية تُجسّد قطيعة استراتيجية عميقة مع عالم متغيّر أفضى إلى تحوّل مفاجئ في المعايير الجيوسياسية وإلى تصعيد حاد في المنافسة بين القوى الكبرى وصولا إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.
يتألف الكتاب من أربعة أجزاء: يتناول الجزء الأول إعادة تنظيم وسائل الدفاع منذ عام 1945، وضمن هذا السياق، يستذكر لوكورنو لقاءه الأخير مع الأميرال فيليب ديجول l’amiral Philippe de Gaulle الذي قال له: «سأموت قريبا، الا أن هناك أمرا ما زلت أعجز عن تفسيره: لماذا خسرنا الحرب عام 1940؟»
يتطرق هذا الجزء الى معارك الفرنسيين في منطقة الهند الصينية وفي الجزائر والى إعادة بناء الجيش الفرنسي وتنظيمه والى مجمل القرارات المتعلقة بالردع النووي التي تبنتها فرنسا منذ خمسينيات القرن الماضي.
في هذا الجزء، يُعرب سيباستيان لوكورنو عن أسفه لأن الإنفاق العسكري كان هو الدافع الرئيس لتعديل ميزانية فرنسا خاصة في تسعينيات القرن الماضي وبعد سقوط جدار برلين حين شاع الحديث عن مصطلح «ثمار السلامPeace dividend» الذي انتشر في أعقاب التحولات الجيوسياسية الكبرى التي شهدتها نهاية الحرب الباردة.
وفيما يتعلق بالخدمة العسكرية الالزامية، يذكرلوكورنو، في هذا الجزء، أن قرار الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك بإلغاء التجنيد الإجباري الشامل في فبراير 1996 يعود إلى دوافع مالية وعسكرية؛ حيث أوضح شيراك أن هذا الإلغاء نبع من إدراكه بأن النزاعات المستقبلية ستُدار بواسطة جنود محترفين مدربين تدريبا عاليا لا تنتهي خدماتهم الا بتقاعدهم عن العمل، ومن هذا المنطلق لا يجب الاعتماد على مجندين لا تستمر فترة تدريبهم الا سنة أو سنتين ويتطلب اعدادهم ميزانية ضخمة. ولهذا السبب تحديدا، يؤكد سيباستيان لوكورنورفضه القاطع لأي فكرة تدعو إلى إعادة فرض الخدمة الإلزامية.
يستعرض الجزء الثاني من هذا الكتاب منظومة الردع التي تعتبر حجر الزاوية في الدفاع عن المصالح الحيوية لفرنسا، كما أنه يتناول العقبات التي تعترض وجود القوات الفرنسية في الخارج والتحديات اللوجستية اللازمة لتوفير المعداتالعسكرية والتعزيزات البشرية عبر مسافات شاسعة وعسكرة الفضاء والحروب السيبرانية المدنية والعسكرية.
في هذا الجزء، يتطرق الكاتب إلى الهجمات الإرهابية التي طالت أنظمة المستشفيات الفرنسية والهجمات التي ضربت مسرح باتاكلان Bataclanعام 2015، والحروب بالوكالة مثل تلك التي تخوضها مجموعة فاجنر Wagner الروسية، وسبل تأمين خطوط الملاحة البحرية العالمية بعد الهجمات الارهابية التي أدت الى قطع كابلات الاتصالات في بحر البلطيق وعمليات الحوثيين في البحر الأحمر.
أما عن الجزء الثالث، فيستعرض القواعد العسكرية الفرنسية وعالم الاستخبارات وصناعة الأسلحة والعلاقة الوثيقة بين وسائل الدفاع والتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والاعتماد الكامل على اسراب من المسيّرات المكلَّفة بمهاجمة أو حماية حاملات الطائرات والطائرات المقاتلة وطائرات النقل والبوارج البحرية.
يتناول الجزء الرابع العلاقة بين المادة الخامسة من الدستور الفرنسي التي تُعيّن رئيس الجمهورية قائدا أعلى للقوات المسلحة، والمادة 21 التي تُحمّل رئيس الوزراء مسؤولية الدفاع الوطني.
يتناول هذا الجزء بالتحليل التحديات الناشئة عن الوضع الدولي والجيوسياسي في إطار العلاقة بين حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية.
كما يحتوي هذا الجزء على فصل هام بعنوان «الموت»، وفيه يشدد الكاتب على أن مهمة الجندي المحترف تقتصر على قتال الأعداء، الأمر الذي يستدعي الاحتكاك المباشر بالخصم والتعرض لخطر الموت. من هذا المنطلق، يسلط الكاتب الضوء على مفهوم التضحية بقوله: « الجندي المحترف لا يموت عبثا، لكنه يُضحي بحياته وفاء لوطنه.»
هكذا يدعو المؤلف القارئ إلى إدراك المخاطر التي تتسبب فيها الحروب الحديثة وتختلف جذريا عن تلك التي عرفها الانسان قديما.
ختاما: نخلص من هذه المراجعة لكتاب سيباستيان لوكورنو Sébastien Lecornu الى أن أهمية تطوير أنظمة الدفاع الشاملة لا تعتمد فقط على الردع العسكري التقليدي، بل ترتكز على القدرات العسكرية السيبرانية المتكاملة وعلى الذكاء الاصطناعي لضمان الكشف المبكر عن التهديدات المفاجئة وغير المتكافئة التي تقود الى نزاعات مسلحة هجينة تقضى على البشر والحجر.
** **
أيمن منير - أكاديمي وكاتب ومترجم مصري
ayman-mounir.webnode.fr