هل من الضروري حتى تكون قارئًا حقيقيًّا أن تقرأ بعض الكتب ذائعة الصيت أو الروايات التي يكثر الحديث عنها في كل مكان والتي يُباع منها الملايين كل عام لكونها مشهورة فقط؟ هل علينا مثلًا أن نقرأ روايات مثل رواية البحث عن الزمن المفقود للروائي مارسيل بروست، أو رواية الجريمة والعقاب ورواية الإخوة كارامازوف والأبله للروائي الروسي ديستويفسكي، الذي يتميز بطرحه أسئلة فلسفية حول الحياة والوجود والضمير والأخلاق، وبقدرته على وصف الحياة اليومية والصراعات النفسية لشخصيات رواياته بدقة عالية؟
أن تقرأ ما تحب هو الطبيعي في القراءة؛ لأنه الضامن الحقيقي لديمومتها، ولا قيمة للنصائح التي يسديها البعض بضرورة قراءة كتب بعينها إلا لمن وصل إلى ما يُسمى لياقة القراءة، حين يستطيع أن يتأقلم مع أصعب أنواع الكتب في مختلف علومها. أما قبل ذلك فلا يوجد كتاب في العالم يجب عليك قراءته إن لم يكن يعجبك، كما لا يجب -في المقابل- التوقف عن قراءة أي كتاب ما دمت تحبه وتستطيع مواصلة قراءته.
من الجيد أن يطالع القارئ القوائم التي تصدر عن الكتب الأكثر قراءة أو بيعًا، ومن الجيد أن يحاول قراءتها، لكن إصراره على ذلك رغم عدم ميله لها أو عدم تناسبها مع ميوله قد يخلق لديه ردة فعل سلبية تجاه القراءة. هنا يجب أن نطلق العنان لشغفنا بتحديد كتبنا المفضَّلة، ونستمر هكذا حتى يستقر بنا الحال ونضع أنفسنا على سكة القراءة، حينها لا يؤثِّر فينا أي كتاب مهما كان سلبيًّا أو صعب المنال.
كذلك فإنه لا فائدة من قراءة كتاب بهدف الافتخار، بل إن ذلك قد ينعكس سلبًا على مسيرة القراءة، إذ الاحتمال الغالب أن تُترك القراءة نهائيًّا ربما نتيجة الشعور بأن القراءة الحقيقية والجادة ثقيلة ومملة لدرجة لا تُطاق، فالقراءة ينبغي أن تكون عنوان سعادة، وكلقاء مع صديق، أو كموعد غرامي، أو كعلاقة الحب التي تحصل بين حبيبين لا مكان فيها للكذب أو للمشاعر الزائفة؛ وإلا فإنها ستزول وإن استمرت لبعض الوقت. فحب أي كتاب هو ما يجعل القراءة عميقة وفعَّالة ومفيدة، فالقراءة العميقة تمر عبر بوابة الشغف لا الفرض، وهو ما ينطبق على الكبار والصغار على حد سواء.
فهناك ملايين الكتب في العالم تنتظرنا، وكثير منها مفيد ويمكن أن نحبها، فلماذا نتجه إلى ما نحمل أنفسنا على حبه؟ فهذا النوع من الكتب لن نتمكَّن من استيعاب مضامينه وإن قرأناه، خاصة في بدايات مشوار القراءة.
ففي البدايات ينبغي أن نقرأ كل ما نحب مما يقع تحت أيدينا من كتب (قراءة أفقية)؛ فهي مفيدة مهما كانت، وتعزّز -بمرور الوقت- النضج والقدرة على الفهم والتحليل حتى لو لم نشعر، ومع اعتياد القراءة وتجذّر محبتها في قلوبنا نتحول إلى ما يُسمى القراءة العمودية، وهي القراءة في تخصص واحد.
وهنا ينبغي للقارئ أن ينصت لميله الداخلي لنوع ما من القراءة يعجبه ويجد نفسه فيه؛ فما يميل إليه ويتفاعل معه قارئ ما بشكل كبير قد لا يتفاعل معه آخر ولا يحرك فيه شعرة واحدة. لذا ليس على القارئ أن يشعر بالذنب لأنه يقرأ رواية عادية بدلًا من كتاب فكري أو فلسفي، أو ما قد يسميه البعض أدبًا هابطًا؛ فالمهم ما تشعر به لا ما يشعر به غيرك. وما أشبه قراءتك ما لا تحب بتناولك ما لا تحبه من طعام، وهو ما قد يحوله من متعة وشغف إلى عبء عليك، في حين أن قراءة الكتب التي تميل إليها هي أفضل وقود لمواصلة رحلة القراءة، ومن ثم توسيع آفاقك المعرفية حتى لو كانت قصصًا مصورة (كوميكس).
ختامًا علينا ألا نقرأ فقط ما نبدو به مثقفين أمام الآخرين، فالثقافة هي نفسها تأتي من قراءة ما نحب، هنا تتدرج شيئًا فشيئًا وحسب قدراتك الاستيعابية وميولك لكي تصل إلى كتب أكثر عمقًا بمرور الوقت؛ ففضيلة القراءة في بدايتها هي في أن نقرأ لا طبيعة ما نقرأ. وعلينا أن نتذكَّر دائمًا أن هناك لياقة قرائية كما اللياقة البدنية، فالرياضي الذي يمارس الرياضة يوميًّا لا يبدأ بممارستها بعنف منذ الدقيقة الأولى، بل يبدأ بالخفيف من التمارين قبل الانتقال إلى العنيف، وكذا حاملو الأثقال لا يبدؤون بحمل الأوزان الثقيلة في بداية مشوارهم الرياضي، بل يتدرَّجون حتى يبلغوا ما يطمحون إليه.
** **
- يوسف أحمد الحسن