كانت أدوات البشر في -عصر ما قبل اللغة - للتواصل والتعبير عن أحاسيسهم ومتطلباتهم وحياتهم بأسرارها وأفكارهم وتخزين ثقافاتهم وتقديمها إلى الأجيال التالية؛ هي النقوش والرسوم الموجودة في الكهوف والجبال وعلى العظام، ثم جاءت اللغة وهي ـ أي لغة ـ بحسب تعريف ابن جني (أصوات ـ أي كلمات وجمل وتراكيب وما تحمل من صور ـ تُظهِر ما في ذهن المتكلم). وعرفت البلاغة ـ أي ما يكون به الكلام بليغا ـ بتعريفات كثيرة قررت قيام البلاغة على حسن السبك لمعنى أخاذ، يتحقق بالسلامة من الضعف والحشو وروعة الوصف للمعنى وإطراب السامع والتغلغل إلى قلبه، كانت أداتها قوة الكلمة والنبرة والإيقاع والصور والإيماءات، تعبر عن روح تتجدد يوميا في حياة الناس كافة، تكشف مكامن الإبداع والجمال، تتسلل إلى القلب فتوصل إليه المعنى بأقصر الطرق وأعمقها في أحسن لفظا.
وفي هذا العصر لم تقتصر البلاغة على الكلام فقط بل تجاوزته إلى ما أنتجته منصات التواصل الاجتماعي كالوتس آب وإكس نختار منها الرموز التعبيرية (الإيموجي) ليس لها لفظ ولا صوت ولا نص ولا كلمات،كما لو كانت من عصر ما قبل اللغة، ومع ذلك حملت دلالات إيحائية غير محدودة فوق ما يحمل اللفظ بل أقوى بلاغة منه وأكبر مما تحتويه اللغة أحيانا عميقة التأثير تعبر عن معان مكثفة وبلاغة حية متجددة، والمتلقي يشارك ـ بالتأويل ـ في إنتاج معنى لها ينفذ إلى وجدانه، بديلة عن اللغة لمن يصعب عليهم التعبير بالكلمات عن مشاعرهم بوضوح وسهولة، عالمية مشتركة بين الثقافات، تجاوزت حدود اللغات المكتوبة، يفهمها الجميع ولو اختلفت لغاتهم، ومع أنها صامتة ـ أي بلا لغة ـ فقد تجاوزت حقيقتها (رمز صامت) إلى توليد طبقات جديدة من المعنى وإضافة بعد بصري على الكتابة، تكمل الكلمات وتكتنز المعاني وتضيف نكهة خاصة ودفئا عاطفيا للتواصل الرقمي، فهي إضافة جديدة إلى اللغة والإبداع والتعبير عن المشاعر، ووسعت حدود البلاغة التقليدية وأعادت تشكيل أدواتها، تتغلغل دلالاتها إلى القلب قبل الإذن ما لا تبلغه الكلمات، فأعادت للرموز الدور الذي كانت تؤديه قبل ظهور اللغة وتجاوزت اللغة وأضافت إليها، علامات سيميائية تحمل دلالات تتجاوز ظاهرها، وتختصر مواقف كاملة في رمز واحد، فالوجه المبتسم ـ في محادثة ـ تعبير عن الرضا أو تخفيف من حدة خطاب جاد أو سخرية مبطنة، والقلب الأحمر تعبير عن الحب أو الشفقة، والوجه المصمت تعبير عن التردد أو الاعتراض الصامت.
مع تقلب العصور تظل البلاغة هي هي تعبير أخاذ عن معنى يتغلغل في النفس، ليست مجرد فن القول أو جمال الرمز فحسب، بل هي جوهر التواصل الإنساني الذي يتجدد مع كل عصر، يغيّر أدواته لكنه يحافظ على غايته الكبرى: أن يفتح للمعنى طريقًا إلى القلب والعقل، وأن يظل شاهدًا على إبداع الإنسان في التعبير عن ذاته وعالمه.
** **
د. نورة بنت عبد الله بن إبراهيم العمر - أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة الملك سعود
@nora_7055