الثقافية - علي القحطاني:
عُرف الدكتور أحمد يوسف، أستاذ الأدب المقارن بالجامعات الفرنسية وعضو المجمع العلمي المصري، باهتمامه العميق بعلاقات الشرق بالغرب، وتتبع الصور المتبادلة بين الثقافتين عبر التاريخ في أطروحته الشهيرة بجامعة السوربون، تناول صورة مصر في الذاكرة الفرنسية بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، متتبعًا التحولات السياسية والفكرية التي رافقت هذا التصور.
إلى جانب عمله البحثي، خاض تجربة الترجمة الأدبية، فكان ممن نقلوا نصوص نجيب محفوظ إلى الفرنسية، كما قدّم للقراء الأوروبيين دراسة نادرة عن القهوة بوصفها رمزًا ثقافيًا عابرًا للقارات، انطلاقًا من مذكرة قديمة للمستشرق أنطوان جالان.
في هذا الحوار لـ«الثقافية»، نستعرض مع الدكتور أحمد يوسف ملامح الاستشراق الجديد، وتحولات النظرة إلى مصر، وعلاقة المقاهي بالوعي الحديث، كما نتوقف عند تجاربه الشخصية في الترجمة والتوثيق.
صورة مصر في الذاكرة الفرنسية
- بوصفكم باحثًا في الاستشراق الجديد، كيف تنظرون إلى الفرق بين الولع الفرنسي القديم بمصر، وصورها في المخيال الغربي الحديث؟ هل ما زالت مصر تُرى من منظور «ألف ليلة وليلة»، أم أن المشهد قد تغيّر تمامًا؟
كانت أطروحتي للدكتوراه في جامعة السوربون عام 1992، بعنوان: «صورة مصر في الذاكرة الجماعية الفرنسية من عام 1750 إلى عام 1850»، وقد أشرف عليها نخبة من الأساتذة المتخصصين في مجالات متعددة من العلوم الإنسانية، فيما يعرف بالنهج التعددي (Multidisciplinary).
وقد كان الهدف من هذا التخصص هو الإحاطة الشاملة، والمنهجية، بصورة مصر من مختلف الجوانب: السياسية، والتاريخية، والفلسفية، والفنية، كالرسم والموسيقى، وغيرها.
وقد نُشرت الرسالة في كتاب شهير بفرنسا عام 1998، بعنوان: «الولع بمصر في فرنسا: من الحلم إلى المشروع»، وتُرجم إلى لغات عدة، منها اللغة العربية (بترجمة د. أمل الصبان)، تحت عنوان: «الولع الفرنسي بمصر»، وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر.
وسر نجاح هذا العمل البحثي يكمن في أنه لم يكتفِ بتناول الولع السياحي أو الأدبي بمصر، بل قام على تأصيل علمي عميق، استند إلى مصادر أرشيفية فرنسية برية وبحرية، وأرشيف وزارة الخارجية، وهي مصادر كشفت عن مشروع سياسي فرنسي قديم، تعود جذوره إلى الحروب الصليبية، ثم إلى دوافع تجارية وعسكرية خلال الصراع الاستعماري مع بريطانيا.
لقد كانت فرنسا تطمح إلى قطع طريق التجارة بين إنجلترا ومستعمراتها الغنية في الهند، عبر احتلال مصر والجزيرة العربية، والسيطرة على البحر الأحمر، من خلال حفر قناة تصل بين البحرين، وهو ما عُرف لاحقًا بـ«قناة السويس».
أحلام فترة النقاهة
- قمتم أيضًا بترجمة رواية «أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ إلى الفرنسية. كيف تلقّاها القارئ الفرنسي؟ وهل واجهتم صعوبة في نقل الحس المصري الخفي في أدب محفوظ؟
أسعدني الحظ بالتعرف إلى الأديب الكبير توفيق الحكيم في الإسكندرية خلال الثمانينيات، حين كنت معيدًا في كلية الألسن. وقد قادني ذلك إلى التعرف على أصدقائه من كبار الكتّاب، ومنهم نجيب محفوظ.
أما «أحلام فترة النقاهة»، فهي مجموعة من القصص القصيرة جدًا، لا تتجاوز الواحدة منها سطورًا قليلة، وقد كتبها محفوظ بعد تعرضه لمحاولة اغتيال بسبب رواية «أولاد حارتنا». ورغم نجاته، أُصيبت يده اليمنى بما أعاقه عن الكتابة المطوّلة، فكانت هذه المجموعة بمثابة تعبير رمزي مكثف عن رؤيته.
وقد سعدت بأن الناشر الفرنسي الشهير «لوروشيه» طلب مني ترجمتها إلى الفرنسية، خاصة بعد أن أثارت محاولة الاغتيال اهتمامًا عالميًا واسعًا. صدرت الترجمة عام 2004 تحت عنوان:Les rêves de convalescence
ولاقت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا في فرنسا.
فيما يخص الترجمة، لم تكن هناك صعوبات كبيرة بسبب قِصر النصوص، غير أن أسلوب محفوظ القائم على الرمزية تطلّب كثيرًا من الحذر. وقد اضطررت أحيانًا إلى الرجوع إلى نجيب محفوظ شخصيًا لتفسير بعض الرموز، حتى أضمن ترجمة أمينة لا تتورط في تأويلات غير دقيقة. وكان ذلك ممكنًا، ولله الحمد، لأن محفوظ كان على قيد الحياة، وكنت على تواصل مباشر معه.
أنطوان جالان وألف ليلة وليلة
- كيف اختلفت دوافع وأدوات تصوير مصر في الاستشراق القديم عنها في الاستشراق الحديث، وما أثر ذلك على النظرة الغربية لمصر والعالم العربي؟
الفرق بين صورة مصر في الاستشراق القديم والاستشراق الجديد يبدو جليًّا في تغيّر وسائل النقل والاتصال والكتابة.
ففي الاستشراق القديم، كانت مصر – شأنها شأن معظم العالم العربي – جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وكانت النظرة إليها في الغالب محكومة بالدوافع الدينية، خصوصًا لدى الحجاج المسيحيين المتجهين إلى زيارة قبر السيد المسيح في القدس عبر الأراضي المصرية. وقد توجهت الحملة الصليبية السابعة (1248–1250)، بقيادة الملك لويس التاسع، مباشرة إلى مصر من أجل تأمين طريق الحج إلى القدس.
أما الاستشراق الحديث، فقد استفاد من اتساع الرؤية الغربية للعالم بعد اكتشاف القارات الجديدة، وظهور السفن البخارية، وتطوّر نظام الحماية القنصلية الأوروبية، وذلك بعد توقيع اتفاقية «الامتيازات» (Les Capitulations)
بين السلطان سليمان القانوني وفرانسوا الأول، ملك فرنسا، عام 1536. ويمكن أيضًا إضافة اختراع المطبعة على يد الألماني جوتنبرج عام 1450، حيث أسهم في نشر الكتب، لا سيما كتب الرحلات، على نطاق واسع، مما جعلها مصدرًا للشهرة وكسب المال، وأداةً لفتح آفاق معرفية جديدة، استُخدمت لاحقًا، في القرن التاسع عشر، ضمن أدوات استعمار «العالم القديم».
يمكن القول إن الاستشراق الحديث كان وسيلة علمية لمعرفة العرب تمهيدًا للهيمنة عليهم، لكنه في الوقت ذاته شكّل أداة إيجابية مكّنت العرب من تأمّل ذواتهم، والتعرّف إلى تراثهم وتاريخهم، من خلال مناهج علمية حديثة.
ولم تكن قصص «ألف ليلة وليلة»، التي ترجمها الفرنسي أنطوان جالان (وسنعود إليه في سياق الحديث عن القهوة)، بين عامي 1704 و1714، سوى أحد ثمار هذا الاستشراق الحديث، إذ أصبح الطلب على الثقافة العربية طلبًا معرفيًّا شاملًا، لا دينيًّا فقط.
توثيق سيرة القهوة العربية
- ما الدافع وراء توثيقك لسيرة القهوة العربية في أحد كتبك ؟ وهل بدأت الفكرة بصورة أم ذكرى؟ وكيف ترى دور الصورة والتوثيق البصري في إحياء الذاكرة الثقافية؟
عاش المستشرق ومدير المكتبة الملكية أنطوان جالان (1646–1715) حياة زاخرة بهاجس واحد اسمه «الشرق». وهكذا أصبح مدير مكتبة الملك لويس الرابع عشر وسفيرًا ثقافيًا له في عواصم الشرق الإسلامي، حتى غدا مفتونًا بثقافة المسلمين، عارفًا بتفاصيل حياتهم، من البادية إلى الحاضرة.
ولم يكن مستغربًا أن يكون أول من تصدى لترجمة ألف ليلة وليلة، ليفتح بذلك مخيلة أوروبا والغرب بأسره على تفاصيل العقل العربي. غير أنه، وقبل أن ينشر ترجمته بين عامي 1704 و1714، كتب مذكرة طريفة ومثيرة عام 1699 بعنوان «القهوة: اكتشافها وتطورها».
في هذه المذكرة، يستعرض جالان قصة اكتشاف حبوب البن في الحبشة، حين لاحظ المزارعون أن أغنامهم تصاب بحالة من الهيجان بعد تناول أوراق شجرة معينة. وحين قاموا بغلي هذه الأوراق وشربها، اكتشفوا أنها تحتوي على مادة تُذهب النوم.
وهكذا ظهر البن على مسرح التاريخ أولًا في الحبشة، ومنها انتقل بسرعة إلى اليمن، ثم مكة، ومنها إلى قاهرة المماليك، الذين حوّلوه إلى سلعة تجارية مُربحة مع أوروبا.
وبين اكتشاف البن وتحوله إلى مشروب شعبي يُعرف باسم القهوة – وهو الاسم العربي الذي لا يزال حاضرًا في معظم اللغات الأوروبية حتى اليوم – ظهرت فتاوى دينية، إسلامية ومسيحية، حاولت منع إدمان هذا المشروب بين العامة. إلا أن السياسة تدخلت وفرضت شروطها على الفقهاء، الذين أذعنوا بشرط تخصيص أماكن مغلقة لتناول القهوة، ومن هنا نشأ مفهوم «المقهى»، الذي لا نجد ما يقابله في حالة الشاي، إذ لا يُقال «مكان الشاي» مثلاً.
وقد نجح أهل البندقية، الذين تفوقوا في تجارة القهوة والشاي بين الشرق والغرب، في اختراع مصطلح كافيتريا (Café-theria)، ليكون مكانًا تُقدَّم فيه القهوة والشاي معًا.
ومع انتشار القهوة عن طريق الأتراك والبنادقة، انتشرت المقاهي بدورها، وأصبحت مراكز لتبادل الأخبار، ثم لاحقًا مراكز للاتصال الثقافي، ثم أماكن لتجمع الأدباء والفلاسفة.
فإذا أخذنا مثال مقهى بروكوب في قلب الحي اللاتيني بباريس، نجده قد تحول إلى ملتقى للفلاسفة الذين ستشعل أفكارهم الثورة الفرنسية. ولا يزال المقهى إلى اليوم يحتضن في طوابقه الثلاثة متحفًا للفلاسفة، وآخر لوثائق ولوحات الثورة الفرنسية.
وفي البندقية (فينيسيا)، نجد المقهى الشهير لو فلوريان، الذي يُجسد كيف تحولت القهوة من مشروب إلى رمز حضاري كامل، يعكس تداخل الشرق والغرب ودور التجارة في هذا التبادل.
وإذا عدنا إلى الشرق، وجدنا ظاهرة المقاهي حاضرة أيضًا، وقد خصص لها الراحل الكبير جمال الغيطاني أحد كتبه.
كان توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، يتعودون اللقاء صيفًا كل صباح في الإسكندرية بمقهى بترو اليوناني، وحين هُدم المقهى، انتقلو ا إلى مقهى الشانزليزيه في سيدي بشر، وهي الفترة التي عرفتهم فيها. وفي هذا المقهى خطرت لتوفيق الحكيم فكرة مقالاته الشهيرة «أحاديث مع الله»، التي أثارت جدلاً واسعًا، ونُشرت أولًا في الأهرام قبل أن تصدر في كتاب بعنوان «مناجاة مع الله».
أما نجيب محفوظ، فكان من عشاق مقاهي القاهرة، مثل مقهى الفيشاوي العتيق في حي الحسين، الذي انتقل منه لاحقًا إلى مقهى ريش ذي الطابع الأوروبي وسط القاهرة. وكان الفرق أن مقهى الفيشاوي كان مفتوحًا على الشارع، أما ريش فكان مغلقًا، وهو ما جعله مناسبًا بعد فوز محفوظ بجائزة نوبل، حيث بدأ يرتاده بصحبة نخبة من المفكرين والفنانين الذين عُرفوا لاحقًا باسم «الحرافيش».
كان يومًا سعيدًا حين عرضت عليّ الناشرة الفرنسية إيزابيل بوديس، صاحبة دار أوريانت إيديسيون، أن أكتب مقدمة لمذكرة أنطوان جالان، وأن أعلق على حواشيها، ثم أضافت صورًا لأشهر اللوحات الغربية والشرقية المستوحاة من القهوة.
وقد حقق الكتاب نجاحًا لافتًا، دليلًا على أن القهوة لا تزال، في جنوب أوروبا، مشروب الكرم و»المزاج»، تمامًا كما هي في العالم العربي. بينما يبقى الشاي مشروب شمال أوروبا – حيث استعمرت إنجلترا الهند والصين، وهما من بلدان الشاي.
لكل مشروب تقاليده، وأسلوبه، وطريقة تفكيره، لكن الجميع يتفق على أن القهوة، كالمطبعة والبخار، كانت من أهم العوامل التي أدخلت الإنسان عصر الحداثة.
** **
@ali_s_alq