طالعتني أو طالعتها؛ قصة في الملحق الثقافي لصحيفة الجزيرة السعودية الصادر بتاريخ الرابع عشر من أغسطس عام 2020، بعنوان «قبلة مؤلمة» للكاتب السعودي حامد الشريف، فشعرت بحاجَة ألحّت عليَّ لسَبْر أغوارها والوقوف عليها، لا سيما وقد حرّكت شيئًا من ركود النقد بداخلي.
يطالعنا الكاتب بفعل فنيّ يشبه التمرُّدَ الهادئ؛ ثورة لا يَرْفَعُ فيها صوتَه، وإنما يهمس في أشدّ النقاط هشاشةً بالذاكرة الإنسانية.. تلاوين الطفولة!
لذلك يخرج الشريف بمساحته التجريبية عن تأطيريَّة الحدود بصورتها المعهودة الحاكمة بما يمثّل شهادة حسّية تتقاطع فيها الفجيعة والبراءة، حيث تعجز الكلمة عن تأدية وظيفتها التواصلية، وإنما تقدم القيمة الإيحائية - الرمزية، في ثوب من البلاغة الجديدة (بلاغة التأثير والإقناع) المفتقَدة في كثير من السرديات العربية المعاصرة، وتصبح اللغةُ بحدِّ ذاتها عضواً ناطقًا باسم الجسد، المقهور والذاكر في آنٍ معًا.
في مفتتحها، نُفاجأ بالانزياح الزمكاني: «كنتُ صغيرة، صغيرة جدًا... لكن لا أذكر كم كان عمري حينَها»، هذه الجملة الملتبسة زمنًا ووجدانًا، تهيّئنا لدخول مشهد يتكئ على الصدى لا الواقع؛ فالمعرفة هنا روحية خالصة، محفورة في أنسجة الذهن وليست مطبوعة على الجسد، فلا نجدها في صفحات التقويم.
الذاكرة إذًا لا تُستحضر لتَرْوي الطفلة (من الارتواء والرواية)، بل لتُنزَف، ولتُستردّ على نحوٍ فني هادئ، كمن يمشي على أطراف جراحه لا يريد إيقاظ ذاكرة الجسد!
تصلح هذه السيرورة الطيفية لرسم جوانب اللوحة القصصية، لكن في سبيل الوصول إلى رسم بروفايل الشخصيات والأحداث، يعمد الشريف إلى التلبُّس بطيف رمزيّ مشحون بلغة الحواس، وبتكثيف دلالي لا يُفرِّط في البلاغة، رغم اشتداد الألم؛ فالحديقة، وهي عادة رمز للبهجة ولا مبالاة الطفولة الخضراء، تتبدى هنا على نقيض وظيفتها، فضاءً للخذلان والإدراك، مكانًا معاديًا ومُسيئًا لا يَحْمِي طفلة، وإنما يسمح لها بالانفتاح على المجهول، والدخول في «الممر اللولبي» بتعبير محمود درويش، ليصبح مساحة انكشاف وتجرُّد واطلاع مباشر على حقائق العالم في عينَيْ البراءة: قد يكون التعذيب بنظراتٍ باهتة أو بقُبلة على الخد. ويُلاحَظ أن القبلة من هنا تجاوزت مبدئيَّة الفعل الجسدي، لتصبح الطعنة الناعمة التي يدخل بها الانتقاص (الجندري - الطبقي - الآيديولوجي) من بوابة الحنان، فتغدو المنظومة القيمية بكاملها بحاجة إلى إعادة موضعة!
ثم تنكشف - من زاوية ثانية - لحظة الوعي التي تصاحب زيادة التوتُّر السردي، حين «تُطبع» القبلة كوشمٍ/ وصمٍ عاطفي على خدّ الذاكرة مترافقةً مع النشيج المكتوم، والارتباك المستسلم، والخوف من المواجهة، فتصبح الفتاة أكثر قابلية لحمولة تزخيم تحوي الوطن والشعوب المقهورة والإنسانية المعذبة والبراءة المغتصبة... إلخ.
وفي هذه اللحظة تمامًا يُعاد تعريف الجسد الطفولي: لم يعد جِلْدًا وأطرافًا، وإنما يُشبِه أرشيفًا للخذلان، وشاهدًا صامتًا على اللحظة التي عكست مسار الإحساس بالعالم.
تُجيد القصة هنا استخدام الإيحاء بدل التصريح، وتُراهن على قوّة الإيماءة عوضًا عن المباشرة. فالرجل الذي نفّذ الفعل ليست له ملامح، لا اسم له، لا وصف فسيولوجيّ يروى عنه. إنه ليس «شخصًا»، وإنما قالَب، هو تجسيد للذكورة المفترسة التي تأتي في هيئة وادعة، لذلك كان حضوره مريبًا ومجردًا وشَبَحيًّا لا إنسانيًّا... حتى وإن لم تكن نيَّته تعكس في طياتها كل هذه التلاوين المخيفة المختبئة داخل الذاكرة الغضة لطفلة!
من جهةٍ أخرى، تقف الأم في منطقة رمادية؛ فحضورها ضعيف، بما يمثّل أنثى مفعولًا بها، ولم تكنْ يومًا فاعِلة؛ أهو إسقاط على عجز المجتمع؟ ربما!
أو هو فضحُ تخاذلِ الأنثى عن نُصرَةِ الأنثى ولو كانَتِ ابنتَها؟ ربما!
هل يكونُ إعادةَ تركيز على التأخيرِ المتعمّد للمرأة أمام السطوة الذكورية؟ ربما!
أسلوبيًّا، تتنقل القصة بين وصفٍ حسي دقيق ولغة مجازية كثيفة، وهي بذلك تخلق «مُركَّبًا لغويًّا متعمّدًا»، لا يتيح للقارئ أن يكون متفرجًا فقط، بل يدعوه ليشعر، ويتورّط، فيتذكر، وإن خانت الأبطال ذاكراتهم.
نبرة السرد الطفولية ظاهريًّا تُخفي في باطنها نضجًا بلاغيًّا دقيقًا؛ فالمبالغة في وصف التفاصيل الصغيرة (لون القميص، ملمس اليد، تعرّجات الوجه) لا تمثّل تقنية استرجاعية تشي بعمق الجرح؛ فالطفل لا يستعيد الأحداث، بل يحفظ وقعها عليه!
التكرار أيضًا يُستخدم هنا استدعاء للقلق. تكرار اللون الأسود (القبعة السوداء، القفاز الأسود، المعطف) يرسّخ الهيمنة والرهبة أمام الظلم وجهل المصير. إنه لون المعتدي، لكنه أيضًا لون الفراغ، لون الذاكرة حين تعجز عن التفسير، تكسو الحدث بالسواد لتقي نفسها من التفسّخ. وحامد الشريف يغرّد مع مطران:
تَغْشَى الْبَرِيَّةَ كَدْرةٌ وَكَأ َنَّهَا
صَعَدَتْ إِلَى عَيْنَيَّ مِنْ أَحْشَائِي!
ولكتابة الشريف جماليات تلوح في قدرتها على إيقاظ الذكرى دون أن يُسمع للوجع صراخ؛ فالنص - كما أسلفتُ- هامس، يُبكي دون أن يستجدي الدموع، ويفتح الجرح دون تعمّد إراقة دم. الجمال في هذا المقام لا يستند إلى زخرفة العبارات ولا إلى طلاء الأسلوب، بل يتجلّى في انضباط اللغة، وفي صدقها حين تُمسك بعاطفة عارية وتكسوها بثوبٍ من الحرف المصقول.
حتى البكاء، وهو أكثر الأفعال وضوحًا في النص، لا يُعطى دلالته العادية، بل يشبه احتراقًا داخليًّا مسكوتًا عنه: «توقفت عن البكاء... في فمي»، حيث تغدو مياه العين ابتلاعًا للحنين، ويغدو الحزن كثيفًا لأنه لم يُقَلْ، بل شُعِر به.
ومع كل هذا الألم، تلمّح النهاية إلى أفق أخلاقي أعلى؛ فحين تشي بأن القبلة «لم تُعاقَب»، فهي لا تطالب بالثأر، بل بالعدالة. هنا تتسع مساحات «الحق»، لأن الاعتراف هو بداية التصحيح. وتتسع مساحة «الخير»، لأن الكتابة نفسها فعل نوراني تطهري طوباوي، وتتسع مساحات «الجمال» من خلال إنارة الزوايا المعتمة من الذاكرة بأداة الصدق النادر، وبلاغة الهدوء التي تنزع الألم من صداه الذاتي لتُدَوِّلَه قضية إنسانية تتجاوز عتبات النفس!
وهذه القصة، وإن كانت تستتبع الجمال السردي، تمثِّل مرآة مكسورة نُرغَم على النظر فيها، فنرى ألوانًا شائهة ونفوسًا منكسرة هي نحن، ومَن خذلناهم بِصَمْتنا، ومَن سكتوا لأنهم لم يجدوا مستمعًا مخلصًا، في أول احتكاك مباشر بين الطفولة وجَمْر العالم.. إنها اختبار مبكر للجسد حين يُستدرَج لا بوصفه كيانًا حرًّا، بل فراغ (مادي ومعنوي) قابل للغزو والتشكُّل. لقد كانت الجرح الأول الذي سيدلها على طريق الآلام، ولو لم يصرح الكاتب بذلك. إنها ليست قبلة، وإن وُصفت بذلك، وإنما أكثر دخولًا في إعلان صامت عن انكسار الثقة، وصرخة مكتومة في وجه مجتمع يهوى تزييف الألم بعبارات ملساء كـ»كان صغيرًا... وسينسى»، كأن النسيان فضيلة، لا سيما إن كان لطفلة يحيط بها الـ(لا اكتراث)!
لكن الحادثة لم تُنسَ، كُتبت... لا لتشفى فحسب، بل لتدين، لتسأل، لتُذكّر، لتفتح كُوّة صغيرة في جدار الصمت الجمعي. لقد وقف حامد الشريف على حافة النسيان، فلم ينحدر فيه، وإنما سلَّط الضوء على ظلمة الذاكرة، وكتب عن النسيان.. فأبعده عن النسيان!
** **
- د. أحمد صلاح هاشم