في ليلةٍ بعد تمام قرنٍ قمريٍّ، لا يُحسب في تواريخ البشر، بل يُسطَّر في ألواح البيان، نُودي نداءٌ خفيُّ الصوت، ظاهر الأثر، كأنما نُفث من صدر اللغة لا من حنجرة بشر.
كانت الريح ساكنة، والنجوم متلألئة، والسماء حُبلى بأمرٍ مهيب، كل شيء ينذر بأمرٍ جَلل، ثم تزلزل الليل زلزلةً خفيفة، وسُمعت في الفضاءِ همهمةٌ كأنها رجعُ بيتٍ لم يكتمل.
قيل: إن «محكمة القرن الكبرى» قد آن أوانها.
وجدتني في قصرٍ كأنه من حكايات ألف ليلةٍ وليلة، على جبلٍ من جبال السروات، حيث ترتمي في أسفل السفح تهامة بأنفاسها الحارّة كأنها بيت شعر غزليّ، وتُطِلُّ القمّةُ على نجد، حيث تهبّ رياح البيان، وتصدح رعود البلاغة، مكانٌ لا يعلوه إلا السماء، ولا يبلغه إلا من استوى لسانه على وتَرِ البيان.
هناك، على عرشٍ من الجلال وسِع كل هذه الجموع، اجتمع من نُفخ فيهم الشعر كما يُنفخ في الطين روحٌ من الخلق. من الجاهلية أقبل فرسان المعلّقات، ومن كل عصر بُعث أمراء البيان، ومن دواوين الموتى نهض الشعراء، كأن الصفحات قد نفضت عنهم تراب القرون السالفة، ونادتهم بأسمائهم كما تُنادى الأرواح في عالم البرزخ، وقالت: «قوموا، فقد آن أن يُوزن القول، بعد أن اختلّ الميزان!».
وأنا... الراوي، دُعيت لا بصفتي قاضيًا ولا خصمًا، بل شاهدٌ من هذا الزمان، شاهدٌ على نزاعٍ قديمٍ متجدد، بين من حفروا الشعر في الصخر، ومن أذابوه في قطرة نثر.
لم أدرِ أكنتُ أحلم، أم نُزعتُ من عالمي كما يُنتزع الحرف من فم الأبكم، اضطرب فؤادي اضطرابًا شديدًا، وخارت قواي لولا ما حاولت استجماعه لأُري أسلافي أني لست دونهم في ثبات الجَنَان، وجدتني هناك... في قاعةٍ ليست من بناء البشر، سقفها قافية، وأرضها تفعيلة، وجدرانها أسفار النقاد، قد أُضيئت بالبصيرة.
همس لي شخص لم أتبينه ابتداءً، ولكنني عرفته بعد أن تحققت منه، إنه هو! من أُعلّق صورته في مكتبتي وعلقت قبلها أبياته في فؤادي، أمير الشعراء أحمد شوقي. وقبل أن أحتفي به قال: «إنها محكمة الشعر، تُعقد مرةً كل مئة عام، ويُبعث فيها كلُّ من نطق بيتًا، أو سكَبَ وزنًا، أو همس بقافية».
حسبته سيكون بجانبي، لأشد به أزري - وهل حلمت يومًا بهذا؟ - ولكنه ذهب وجلس على مقاعد أُعدّت لجمهور الشعراء الحاضرين لمشاهدة المحاكمة.
ضجت القاعة المهيبة فجأة، وإذا بذات الصوت الذي يجلجل الوديان يعود، تبعت عيناي مصدره، وإذا به مؤذنًا بدخول «اللغة العربية»، التي جلست في صدر القاعة، سيّدة كُسيت الجلال، تاجها الفصاحة، وعباءتها من سجع الكهّان، تشع نورًا من قبس التنزيل.
عن يمين القاعة جلس النائب العام: «الذائقة العربية»، وجهه مألوف كصفحات التراث، وعيناه تتقلبان بين الورق والوجدان.
وعن يسارها هيئة المحلّفين:
* الأدب، قد أخذ من كل علم بطرف،
* البيان، يتكئ على سِفر الجاحظ،
* البلاغة، شفتاها لا تنطقان إلا بميزان،
* العَروض، يتأرجح كحدّ السيف بين صدرٍ وعجز،
* السليقة، لا تعرف اصطلاحًا، ولكنها تميّز كما يميّز الطفل بين لحنٍ وأذى.
نُودي على القضية، وما زالت مهابة المنظر آخذةً بفؤادي، فما راعني إلا ذات الصوت المهيب، ارتجّت شعاب السروات لندائه القائل:
القضية: «الشعر فنّ العرب الكامل».
دُعي المدّعون:
• جاء امرؤ القيس، يجر عباءته السوداء، وفي عينه بقايا وَله، وعلى لسانه بيتٌ لم يسعفه العمر لإكماله، أشار بيديه قبل أن يجلس كأنما يحرك تاريخًا بأكمله..
• زهير، كأنما اكتسى الحكمة..
• عنترة، قامته تخلع قلوب الفرسان، وصوته كأنه صدى طعان..
• حسان، يمشي في الحُلل المضاعف نسجها، مشي الجمال إلى الجمال البُزل..
• الفرزدق وجرير، يتبارزان هجاءً حتى في مقام الجد..
• المتنبي، ملك بلا تاج وحاكم بلا دولة..
• أبو تمام، وفي عينه سؤال: «أما زال المجاز يُقرأ؟»
• المعري، يتهادى كأن عقله أكبر من أن تحمله كتفان..
ثم سيقت «المتهمتان»، وكانت الأولى: «قصيدة النثر».
لم تمشِ، بل انسابت كما ينساب شعور الحلم على جبين النوم.
خلفها «الحداثة»، بثوبٍ لا لون له، كأنه مستورد من لغةٍ غريبة.
ووضِعتا في قفص من خيوط الصوت!
قالت الحداثة:
«أما آن لكم أن تُطلقوا سراح الشعر؟
إلى متى تُقيّدونه بالبحر؟
أليس المعنى أولى من الوزن؟
أما سمعتم أصواتًا تُبكي بلا قافية؟
نحن لا نكسر، نحن نفتح،
نحرّر المعنى من القفص... وإن طار بلا جناح.»
ضجت القاعة، كاد الأعشى - وقد دخل متأخرًا مترنّحًا كشاعرٍ للتو أمسك بمطلع قصيدة - أن ينقضّ عليها، لولا أن طرقت القاضية بمطرقتها التي خُيّل إليّ أنها من زمن بعيدٍ لم يدركه أحد.
ثم أذِنت للطرف الأول بالحديث:
• عنترة:
«هل غادر الشعراء من متردم، أم أن المتردم نفسه أمسى هو الغاية؟
يا هذه - وأشار للقفص - الشعر لا يُتحسّس بأنامل القلب كما تدّعين، بل يُمتطى. فمن لم يسرج وزنه قافيه، سقط في أول الطريق.»
• المتنبي، جلجل صوته القاع ة كأنه صدى ألف عام من الشعر:
«أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي، واليوم صرتُ أعمى في زمنٍ لا يبصر حتى المبصرون.
أطلقوا على الهذيان اسم الحرية، ثم قالوا: هذا هو الشعر.»
• المعري، رفع لوحًا، لا كلام عليه إلا:
«الصمتُ، أبلغ من نثركم المتشاعر.»
لكنّ الدفاع لم يصمت.
نهض أدونيس وقال:
«لسنا من الماضي، هذا هو الخيط الأول في نسيج الظل، اللاماضي هو سرنا، الإنسان عندنا ملجوم بالماضي، نعلّمه أن يكسر اللجام ويجمح، نعلّمه أنه ليس حزمة من الأفكار والمصنفات والأوقات التي يسمونها تراث.»
ثم تحدث إليه شيخان وسيمان يجلسان بجانبه، والعبقرية بادية عليهما كأنما كادت أن تنطق دون تَفرّس مِني، ثم نهض مترجمًا عنهما، وقال:
«عن الرفيق شارل بودلير، يقول: الشعر لا يُقال، بل يُنقض، وأنا هجرت الوزن لا لأنني لم أقدر عليه، بل لأنه ضيّق على مخاوفي.»
«وعن السيد ت.س. إليوت: الحداثة ليست نفيًا للقديم، بل موتُه المقرَّر، وهي ثورة على الحاضر، وحتى ما يكون في المستقبل ستمحقه، واللغة ليست وعاءً، بل وهمٌ جماعي. أما العرب، فإنهم مسكونون بنبوءات لغتهم، ونحن نُقيم في المعنى دون بيت.»
ثم قام رجل بعباءة المحاماة، وبذلة أوروبية قديمة، نظراته حادة، قسماته توحي بأنه كاد أن يحوي العلم:
«أنا السير جورج فيلهلم فريدريش هيغل، إنَّ في حديث السير بودلير والسير إليوت ودفاعهما بعض الحقيقة، ولكن أين مكمن الجمال في القصيدة؟ أهو بيانكم وفصاحتكم أيها العرب؟ أم البلاغة والمعنى؟ لقد قامت المعارك بين نقادكم لقرون في هذه المسائل، إنَّ الجمال قيمة بذاته لا يشترط وجود منفعة، وإنَّ الفن ليس وسيلة لشيء، بل غاية في ذاته، فالجمال هو الذي لا منفعة منه، وكل نافع بعد ذلك قبيح.»
ثم نطقت «قصيدة النثر»، عُدّتها اللاواعي، وقالت:
«أنا لست ابنة الخليل، بل حفيدةُ القلق، ربيبةُ المعنى حين ضاق صدرُ الوزن. فيّ نبضٌ لا يُقاس بتفعيلة، فإن لم تسمعني أذنك، فربما تسمعني روحك.»
حدثت حركة انفعالية بين جماهير الشعراء، وإذا بأبي نواس يقف قائلاً:
«دعوها، لعلها تكون للساخرين لعبًا!»
ووقف بشار بن برد مستندًا على عكاز قائلاً:
«أعجمٌ لا يقيمون للعربية لسانًا يقررون أمر شعرنا! فسُد الزمان، ورب الكلمة.»
ضربت القاضية بمطرقتها فسكنت القاعة…
ثم قام الجواهري، بهندامه الذي عُرف به وطاقيته المميزة، يجمع نماذج من قصائد الحداثة والنثر من هيئة الدفاع، وقصائد للمُدّعين، وسلمها للقاضية قائلاً:
«ليس القاضي من يحكم وحده، بل الحرف هو الشاهد الأعظم.»
ثم نطقت القاضية بعد صمتٍ زاد في مهابة الجو:
«تُرفع الجلسة للمداولة... فإن ميزان الحق لا يعتدل إلا إذا صمت الخصوم.»
واجتمعت الهيئة، وبعد ساعاتٍ من السكون، كأنها قرونٌ عجاف، دخلت الهيئة بوجوهٍ مغايرة، كأنهم عادوا من سفرٍ طويل داخل الشعر نفسه.
قالت اللغة:
«أيها الجمع، ممن اصطفتهم الفصاحة، واختارهم البيان، وكانوا حماة لفنٍ أضفى على الحضارة الإنسانية جمالًا، لقد تبيّن للمحكمة الآتي:
أن الشعر لم يكن يومًا وزنًا ولا قافية فقط، وهما أدنى شروط الشعر، لكنّه أيضًا لا يُبثّ في الصحائف دون قلبٍ مُلِئ به.»
ثم نُطق بالحكم، ولن يُستأنف قبل مئة عام:
1. كل شعرٍ لا يهزّك عند سماعه، فليس حريًّا أن يُقال عنه شعر.
2. قصيدة النثر لا تُرفض، ولا تُخرج من الأدب العربي، لكنها لا تُسمّى شعرًا حتى تلتزم ما ارتضاه العرب للشعر لألفي عام.
3. من هجر الوزن فليس خائنًا، يقول أدبًا ما التزم الذائقة التي ارتضاها العرب لأنفسهم.
4. من كسر العَروض ليكتب حرًّا، فعليه أن يُصلح القلب قبل أن يطلب العفو.
5. الحداثة ليست تجديدًا، بل في كثيرٍ من وجوهها نَسْخٌ أخرس، تائه في الترجمة.
6. والشعر... سيبقى ما بقيت العربية، ما دام في الحرف نبضٌ، فالعرب لا يتركون الشعر ولا يتركهم.
ثم انطفأت الأنوار،
وتلاشت القاعة،
وسقط كل شيء كأن لم يكن…
واستيقظتُ فجأة…
كنت في مكتبتي، ورأسي يستند إلى مخدّة من الورق، وفي يدي ديوانُ أبي الفوارسِ عنترة، وعيناي واقعتان على بيتٍ غابرٍ، كأنه رسول من النوم:
«هل غادر الشعراء من متردم؟»
فابتسمتُ، وأيقنت…
أنَّ الشعر لا يموت، وأن العرب، ما داموا يتكلمون العربية، ففيهم جذرٌ من امرئ القيس، وجرحٌ من عنترة، ودهشةٌ من المعري، وسؤالٌ لا يُجاب… بل يُكتب، ويُقرأ، ويُخشى.
** **
- أسامة بن يحيى الواصلي