يمتاز كتاب «دراما التراجيكوميديا في المسرح النثري في مصر (1950- 1969م)» للدكتور ضيف الفرجاني، بأهمية خاصة في مضمونه؛ حيث يُعَد من أوائل الأبحاث التي جمعت بين شقَّي الدراما (التراجيديا والكوميديا) في دراسة المسرح النثري، وأصل هذا الكتاب رسالة دكتوراه أعدَّها الفرجاني وأجيزت له سنة ألفين وعشرٍ، حيث قام برصد التطور التاريخي لهذا المصطلح، ثم تناول نصوصًا منه بالتحليل النقدي، وقد اختار الحقبة الزمنية المذكورة لأن كثيرًا من كتَّاب الدراما في ذلك الوقت اتجهوا إلى التعبير من خلال التراجيكوميديا، فجمعوا بين المأساة والملهاة، وفي سياق اهتمام المؤلف بذِكر ما يؤيد هذه النظرية قال: «وُجِدت ملهاة تخلَّلتها عناصر مأساوية، ووُجِدت مآسي تخلَّلتها عناصر ملهاوية، حتى إن المتلقِّي لم يَعُد قادرًا على تحديد نوع ما يشاهده من المسرحيات المحصورة بين التراجيديا والكوميديا»، ويبدأ المؤلف هذه النماذج بإحدى مسرحيات «يوربيدس» [ت: 406ق.م] الإغريقي الذي أسَّس لهذا النوع من المسرح، من خلال مسرحيته «ألكستيس» وهي مسرحية ذات طابع تراجيدي في أصلها، لكنها تحولت في مجريات الأحداث إلى الاتجاه الكوميدي وانتهت به.
ويذكر المؤلف أسماء أخرى في عجالة، ثم ينتقل سريعًا إلى عصر النهضة ثم إلى العصر الحديث، ثم يتناول التراجيكوميديا في مصر، وفي هذا الإطار يستدعي المؤلف الأمثلة والنماذج بحسب مفهوم المصطلح وليس بحسب التصنيف الشائع لتلك الأمثلة؛ ومن ذلك مسرحية (العصفور في القفص) لمحمد تيمور [ت: 1921م] التي قال عنها ضيف الفرجاني: «الكاتب يصف هذه المسرحية بأنها كوميدية، إلا أنها تمثِّل في رأينا إرهاصًا للدراما التراجيكوميدي؛ حيث إنها تجمع بين المواقف الجادة والمواقف المضحكة»، ولا يكتفي الفرجاني بإطلاق الحكم دون دليل؛ فيأتي بمشهد طردِ الأب ابنه من المنزل، وهو مشهد تراجيكوميدي حسب مفهوم هذا المصطلح؛ فموقف الطرد مأساوي، لكن تصوير تيمور للأب وما فعله إثْر قيامه بطردِ ابنه جاء بشكلٍ ملهاوي واضح؛ وهذه الطريقة التي انتهجها الفرجاني في تتبُّع النصوص التراجيكوميدية توضح اهتمامه بأبعاد الموضوع الذي يتناوله، واستقصاء شواهد الموضوع من خلال ماهيَّته التي يختص بها، فهو يتناول الموضوع من خلال رؤية علمية ذاتية، وهو الأمر الذي يضفي عليه طابع التأصيل والتقعيد.
وفي هذا الصدد يرى المؤلف أن البداية الحقيقية الناضجة للتراجيكوميديا في مصر كانت في الخمسينيات على يد الكاتب المسرحي نعمان عاشور [ت: 1987م]، ثم لحقه في هذا الميدان سعد الدِّين وهبة [ت: 1997م] وألفريد فرج [ت: 2005م].
وبعد ذلك ينتقل المؤلف إلى أنواع القضايا التي تناولها المسرح التراجيكوميدي في مصر خلال الحقبة الزمنية التي تتناولها الدراسة، فالمؤلف يعتمد في منهجه على الشمول والتفصيل، وفي هذا الصدد يبدأ بالقضايا السياسية، ويرى أن الأحداث في مصر من أوائل الخمسينيات حتى نهاية الستينيات، قد أدت إلى حراك سياسي تفاعل معه كتَّاب الدراما فنتج عنه ما يُعرَف بالتراجيكوميديا؛ بواسطة «قدرة الأديب على وصف الحدث بما فيه من تراجيديا بشكلٍ أقرب إلى الواقع، وتقديم حلول وتوصيفٍ للحدث في إطار كوميدي يمنحه المفارقة الذهنية الجاذبة للمتلقِّي».
أما النماذج المسرحية التي تناولها المؤلف في هذا النوع من أنواع القضايا التي تناولتها التراجيكوميدي فهي ثلاث مسرحيات، على النحو الآتي:
أولًا: مسرحية «مسمار جحا» لِعلي أحمد باكثير [ت: 1969م]: وتعتمد هذه المسرحية على «التورية الدرامية والتلميحات التي ينتجها جحا، من خلال الحوار بينه وبين ممثِّلي السلطة وهم (فريق عبَّاد وحريق)؛ حيث كانوا يستثيرونه ليتيح لهم ما يريدون، لكنه كان يدرك مغزاهم، فيحوِّل مجلس الوعظ إلى ملهاة ساخرة ضد أفراد السلطة»، وإضافة إلى ما ذكره الفرجاني فإنَّ ورود اسم (جحا) في عنوان هذه المسرحية يُحِيل الذهن إلى التصور التراجيكوميدي لأحداث المسرحية، ومع ذلك فقد أورد الفرجاني بعض المقاطع الحوارية التي تكشف التحول الدرامي في تناوُلِ علي أحمد باكثير للأحداث، والمزج بين التراجيديا والكوميديا بطريقة مناسبة لِما هو معهود في ذهن المتلقِّي عن شخصية جحا.
ثانيًا: مسرحية «السلطان الحائر» لِتوفيق الحكيم [ت: 1987م]: ويرى الفرجاني أن هذه المسرحية التي «تبدأ بحوار بين الجلاد الذي يقوم بتنفيذ حكم الإعدام مع أذان الفجر، وبين المحكوم عليه بالإعدام الصادر دون محاكمة؛ تتولد التراجيكوميديا من التعارض بين الفجر وما يرمز له من بداية حياةٍ، وبين الإعدام الذي يمثِّل نهاية الحياة، وفي هذا الجو المأساوي تدب روح المرح بين الجلاد وبين المحكوم عليه؛ حيث يطلب الجلاد منه أن يرشوه بكأسين من الخمر حتى يعتدل مزاجه فيضرب رقبته ضربة متقنة تفصلها عن جسده دون معاناة»، ويتخذ ضيف الفرجاني من التحول الدرامي لأحداث هذه المسرحية مرتكَزًا لتصنيفها ضمن التيار التراجيكوميدي؛ فالجانب المأساوي فيها هو صدور أمر بالإعدام دون محاكمة، أما الجانب الكوميدي فهو إقدام الجلاد على طلب رشوة كي يكون رحيمًا في قيامه بالقتل الذي سينفذه في المطلوب منه الرشوة، ولا شك في أن هذا المسار الدرامي للأحداث يخفف من حدَّة المأساة التراجيدية من ناحية، ومن ناحية أخرى يكشف مدى العبث الذي تمارسه السلطة، وقد أورد الفرجاني مقتطفات حوارية من المسرحية توضح ذلك وتعاضد تصنيفه للعمل، ومِن منهج الفرجاني في هذا الصدد حشد العناصر الرمزية وبيان دلالتها التي تجري في مسار تصنيفه للعمل المسرحي؛ كالدلالة الرمزية للفجر؛ الذي يرمز لميلاد حياة، وبيان وجه التعارض بين هذه الدلالة وبين العمل الذي يمارسه الجلاد بالتزامن مع ذلك الوقت، ومن الدلالات أيضًا شخصية الغانية التي تحتال لإنقاذ النفس البرئية.
ثالثًا: مسرحية «الأستاذ» لِسعد الدِّين وهبة: وتتناول هذه المسرحية قضية التواصل بين الشعب والحاكم، وذلك من خلال الكلام والسمع، فباعتبار طرفي التواصل جسدًا واحدًا فقد أصبح بين خيارين؛ إما أن يتكلم ولا يسمع، أو يسمع ولا يتكلم؛ وهذه مشكلة يواجهها «الأستاذ» الذي جاء ليعالجهم؛ ويمضي ضيف الفرجاني في عرض وتحليل جوهر المسرحية، مبينًا الجانب الساخر عند سعد الدِّين وهبة؛ الذي يجعل «الراقصة تصبح ملكة، وقاطع الطريق يصبح وزيرًا، والشحاذ يصبح جابي الضرائب»، وبعد عرض جمل حوارية من هذه المسرحية توضح سخرية كاتبها من القائمين على الحكم؛ يوضح الفرجاني موضِع التراجيكوميديا التي تتمثل في إسناد المناصب السياسية الكبيرة إلى الراقصة وقاطع الطريق والشحاذ؛ ثم يُورِد الفرجاني من هذه المسرحية بعض الجمل الحوارية المصحوبة بأفعال وانفعالات حركية وبصرية تتناقض مع دلالة الكلمات، ويعلق الفرجاني على ذلك بقوله «فالتراجيكوميديا هنا قائمة على المفارقة بين الظاهر والباطن، فظاهر الأمر أنه لقاء غرامي بين زوج وزوجته، ينمُّ عن محبة وودٍّ، إلا أن الباطن يضمر الكراهية والحقد، فالملهاة هنا تنبع من الموقف السطحي أو الظاهري، بينما تكمن المأساة في تحطيم أقدس العلاقات البشرية، بين الزوج وزوجته»، ثم يستطرد الفرجاني في تحليل أفعال أصحاب المناصب واستنباط العلاقة الدلالية بين أعمالهم السابقة وبين مناصبهم السياسية التي آلت إليهم؛ «فجابي الضرائب شحاذ سابق، ونظرته للضرائب جاءت من وظيفته القديمة إحسانًا مفروضًا أو مقنَّنًا»، وهذا يعني أن النظام الحاكم لن يستغل هذه الضرائب في الصالح العام؛ بل سيتقاسمها أفراد النظام فيما بينهم.
ثم ينتقل الفرجاني إلى القضايا الاجتماعية؛ وهي النوع الثاني من أنواع القضايا التي تناولها المسرح التراجيكوميدي في مصر خلال الحقبة الزمنية التي تتناولها الدراسة، حسب تصنيف المؤلف، وقد تناول هذه القضايا من خلال ثلاث مسرحيات أيضًا، وفي بداية تحليله لهذه المسرحيات يحرص الفرجاني على تأكيد منهجيته في الاختيار فيقول: «قد عالجت هذه الأعمال القضايا الاجتماعية معالجة تراجيكوميدية من وجهة نظري»؛ فهو يؤكد أن هدفه توثيق الظاهرة من خلال تتبُّع ما يؤيدها، وجاءت هذه المسرحيات على النحو الآتي:
أولًا: مسرحية «المحروسة» لسعد الدِّين وهبة: ويُبرز الفرجاني في تحليل هذه المسرحية، دراما التراجيكوميديا، من خلال تفسير الدلالات الرمزية لطبيعة الشخصيات التي دار بينها الصراع؛ كمأمور المركز الذي يمثل السلطة، ووكيل النيابة الذي يمثل الشعب، ويقول الفرجاني في سياق تحليله: «موضوع المسرحية هو تصوير مأساة الفلاحين ومعاناتهم ضد الإقطاع ورجال الأمن، فكان من الطبيعي أن يغلِّف المؤلف هذه المأساة بروح فكاهية مسايرة لروح المأساة التي نَبَعت من التيمة الرئيسة في المسرحية، لذا دخلت الفكاهة بوصفها نوعًا من الرفض لهذه المأساة، وسخرية من الواقع، فتحققت التراجيكوميديا داخل العمل من خلال مشهيات ولَّدت الملهاة داخل إطار المحيط المأساوي»، ثم تناول الفرجاني عدة مقاطع حوارية بين عدد من شخصيات المسرحية في مواقف متنوعة؛ للتدليل على تحليله واستنباطه.
ثانيًا: مسرحية «عائلة الدوغري» لنعمان عاشور: وتدور أحداث هذه المسرحية حول عائلة من الطبقة الوسطى، ويُورد الفرجاني عدة مقاطع حوارية من هذه المسرحية، متناولًا إياها بالتحليل والتعليق، مبينًا مواضِع التراجيكوميديا في هذه المواقف التي يدور حولها الحوار، ومن ذلك كمثالٍ قوله معلقًا على حوارٍ بين حسن الدوغري وبين كريمة زوجة أخيه: «فالموقف التراجيكوميدي يتولد من التضاد بين موقف كريمة المأساوي وبين معالجة حسن الكوميديَّة لها؛ فحين تنهمر كريمة بالبكاء على وضعِها المأساوي؛ يتدخل حسن بمواساتها بروحه المرحة»، وعلى هذا النحو يبني ضيف الفرجاني رؤيته لهذه المسرحية، واستنباطه ما يبرهن به على تصنيفها تحت فن الدراما التراجيكوم يدي.
ثالثًا: مسرحية «رحلة خارج السُّور» لرشاد رشدي [ت: 1983م]: وفي إطار تحليل ضيف الفرجاني لهذه المسرحية واستخلاص ما يوضح تصنيفها ضمن الدراما التراجيكوميدي؛ يذكر أولًا المحور الرئيس الذي تدور حوله المسرحية وهو تصوير عجز المجتمع المصري عن تحقيق حلمه الاجتماعي بعد ثورة يوليو 1952م، ثم يؤكد الفرجاني أن التراجيكوميديا تتبلور داخل هذه المسرحية من خلال المفارقة بين نظرة الفرد إلى ذاته وبين نظرة المجتمع إليه؛ ويعرض الفرجاني عدة مقاطع حوارية معلقًا عليها في سياق منهجه التحليلي النقدي الذي يخلص منه إلى إثبات رؤيته في تصنيف الأعمال المسرحية التي يتناولها في دراسته، وفي هذا السياق يقول بعد أحد المقاطع الحوارية: «في هذا الحوار يؤكد الكاتب أن فلسفة هذا المجتمع هي الفساد، وأن مقاومته هي الاستثناء، ومن خلال هذه النظرة القائمة على التناقض تتفجَّر التراجيكوميديا»، وعلى هذا النحو يمضي الفرجاني في إطار العرض والتحليل والاستنباط المناسب لرؤيته التي تدور حولها دراسته.
وبعد انتهاء المؤلف من عرض نماذج المسرحيات السياسية والاجتماعية التي دارت في إطار التراجيكوميديا؛ يوضح سبب التقسيم إلى هذين النوعين؛ فالمعروف أن السياسة والاجتماع قرينان؛ لأن السياسة لا توجد إلا من خلال مجتمع، وكل مجتمع لا بد له من سياسة تعالج أموره الداخلية والخارجية، لذلك يعلل المؤلف تقسيمه المسرحيات التي تناولها، إلى سياسية واجتماعية، فيقول: «قام كتَّاب الدراما بطرح هذه القضايا في قالب التراجيكوميديا بوصفِها محاكمة للثورة وفق مبادئها، لكن اختلفت المعالجة التراجيكوميدية في القضايا الاجتماعية عن القضايا السياسية؛ فَفِي القضايا السياسية كانت السمة الغالبة هي السخرية البارزة اللاذعة التي تقوم بدور المحرِّض، أما في القضايا الاجتماعية فكانت السخرية محصَّلة وليست عنصرًا»، وبعد ذلك يتطرق الفرجاني إلى عناصر البناء في دراما التراجيكوميديا، موضحًا جوانب خصوصية التناول في هذا القالب الذي يجمع بين شقَّي الدراما (الكوميديا والتراجيديا)، وفي سياق تبيين هذه الخصوصية يستطرد الكاتب في ذكر الأمثلة، معقبًا بالنقد والتحليل، ونستطيع أن نقول بشكلٍ مجملٍ: إن المؤلف قد اعتمد في منهجه على التَّتبُّع والتحليل والاستنباط، في سبيل إثبات رؤيته العلمية والنقدية.
** **
حسن الحضري - شاعر وكاتب مصري