هو فضاء السير والعبور والمواجهة مع الآخر، ويقع وسطًا بين مكان المنطلق ومكان المقصد، لأنه بداية السفر خارج مكان الألفة، بحيث يمثل جسرًا للعبور من نقطة الانطلاق إلى نقطة الهدف، خلاله يصبح المكان أمكنة ليس فقط للعبور، وإنما للتزود بالزاد والمعلومات والحكايات والتجارب، كما يعبر الرحالة في عبوره عما يجيش في نفسه من مشاعر إيجابية أو سلبية، مما يجعل العبور أخصب مرحلة في الرحلة، نظرًا لتعدد الأمكنة وتنوع التجارب من جراء اللقاءات والصدمات والمفاجآت.. وكلما كانت نقط العبور كثيرة، حققت للنص ثراءً في الحكايات والصور، فيجيء الحديث عن وقائع العبور أغنى وأكبر حجمًا من وقائع المكان – الهدف.
ويأتي المعبر في النصوص الرِّحْلَيّة ممهدًا للمكان المقصد، وآخذًا بيد المتلقي للوصول إليه في تدرج فيه قدر كبير من التشويق الذي ينشط المتلقي لمواصلة الارتحال الذهني في الحكاية الرِّحْلَيّة للوصول إلى المحطة النهائية، وقد تفاوتت النصوص الرِّحْلَيّة السعودية في وصف فضاء المعبر، والسمة الغالبة على هذه النصوص أن فضاء المعبر لم يكن واضح المعالم محدد القسمات، فالرّحالة عادة ما يستقل الطائرة من إحدى المطارات السعودية ثم يصل بعد ذلك إلى فضاء المقصد على نحو مباشر، وذلك على خلاف الرحلات التراثية التي حتمت عليه وسيلة الرحلة السفينة أو الراحلة أن يجتاز المراحل المتعددة حتى يصل إلى هدفه، لذلك طال الحديث عن فضاء المعبر، وجاء من أغنى أجزاء الرحلة تلونًا نظرًا لتعدد البلدان التي يجتازها.
وتعتبر الوسيلة التي تنقل الرحالة من مكان إلى آخر أولى مراحل المعبر، وقد يصف بعض الرحالة أحوالهم النفسية عندما يستقلون الطائرات من توتر والاستسلام للقدر، ونجد الحديث عن هذه الأحوال لدى محمد عمر توفيق في رحلته إلى هامبورج؛ إذ يقول: الطائرة مجتمع صغير يسوده الأمن والسكون والاستسلام العميق لمفآجات القدر.. وبمجرد ارتفاع الطائرة تتحدد علاقة الذين فيها بالأرض..
إذ يلوح أننا قد ارتبطنا بمصير واحد معلق بهذه الطائرة في يد القدر، وكل ما حولنا.. كالجبال.. والسحب.. والصحراء.. يبدو معلقًا بنفس المصير..
وأضغط مشاعري إذا هزها الخوف، وأرسم على ظاهري معنى التجلد كما أراه شائعًا في ملامح الآخرين.. وإذا مالت الطائرة بجناحيها إلى اليمين أو إلى اليسار، أحسست أنني أميل معها بأفكاري وكل ما في داخلي، وإن كان جسمي على المقعد بمنتهى الثبات والاطمئنان، ماذا يحدث حقًا إذا أفلتت الطائرة من يد القدر؟.
وتضمنت رحلة عبدالله الجمعة حكايا سعودي في أوروبا وصفًا لرحلته في غابات نيوفورست جنوب إنجلترا عندما انقطعت بهم السبل. وقد امتد المعبر من قرية ليدنهرست إلى قرية بروكنهرست وما لحق هذه الرحلة من متاعب بداية من ضياع الخريطة وصولًا إلى انتهاء إيجار الدراجات الهوائية؛ إذ يقول: حتى توقفت أمام محل الشاي سيارة (بكس) بيضاء اللون. ترجل منها بسرعة عجوز يعتمر قبعة صوف رمادية واتجه إليّ بسرعة.. عرف السيد العجوز بنفسه على أن اسمه (بيل)، وأخبرنا بأنه مزارع يقضي أوقات فراغه بتوصيل المتعطلين مستغلًا شح سيارات الأجرة في قرى الغابة.
وصف نفسه قائلًا: أنا مثل حفاري القبور، يتصلون بي عندما تكون هناك مصيبة .. إلخ، كان الارتباك واضحًا علينا جراء تأخرنا على صاحب الدراجات، خاصة وأن دراجاته لم تعد بحوزتنا. طمأننا بيل بأن مؤجري الدراجات عادة ما يؤخرون إغلاق محالهم حتى تعود كافة الدراجات المستأجرة. أخذنا نحكي (لبيل) قصة مغامرتنا الشاقة التي لم تكد تنتهي بينما أخذت سيارته البيضاء تشق عباب الظلام متجهة إلى محطة قطار بروكنهرست.وصلنا المحطة قبل الخامسة والنصف بقليل. وكما توقع (بيل) كانت إضاءة محل الدراجات مفتوحة.
ونجد عبدالله الحقيل يقدم بعض المعلومات الجغرافية والتاريخية والسكانية في فضاء المعبر عندما زار مدينة تعز في رحلته (رحلات ومشاهدات في الوطن العربي والأندلس) إذ يقول: انطلقت بنا السيارة نحو تعز وكان الطريق مائتين وخمسة وستين كيلًا،جنوب العاصمة، ومررنا بمناطق خضراء وجبال مجللة بالجمال والخضرة وسهول تغطيها المزارع ومررنا بعشرات البلدان كذمار، والتي سبق أن تعرضت لكارثة الزلزال حيث شاهدنا آثاره، وكذا إبويريم وغيرها من القرى والبلدان وهي أجمل مناطق هذه البلاد، ولقد صعدنا جبالًا شامخة فارعة فكنا نرتفع تارة ونهبط أخرى إنها لقمم شامخة خطرة،كجبل سمارة الشهير، وكان مرافقي الأخ محمد المعلمي يشرح لي أسماء هذه الأماكن والجبال والوديان، وكان السائق ماهرًا حاذقًا بالطريق، فعندما رآني مكتئبًا من وعورة الطريق قال لا تخف فقد ترددت مع هذا الطريق عدة سنوات وما زلت أتردد بين جنباته فهو شيء سهل، فقلت زادك الله نشاطًا وقوة ومهارة فعليك بالرفق ففي التأني السلامة وفي العجلة الندامة.
وإذا كان فضاء المعبر عند بعض الرحالة يصور معاناتهم من خوف وهلع، أو يقدم بعض المعلومات التي تفيد المتلقي، فعميد الرحالة محمد العبودي، رسم صورة إيجابية لهذا الفضاء، وما يقدم من خلاله من خدمات ما بين معاملة المضيفات وما تشتهيه الأنفس من طعام وشراب إذ يقول: وكنت في الدرجة الأولى التي تشبه قاعة جلوس ملك من ملوك التاريخ القديم المترفين. وزاد شبهها بمجلس الملك القديم المترف، بل الخليفة المقتدر ما حفلت به من أنواع التكريم والترفيه من شراب تسعى به حسان، أو طعام ضم ألوانًا إلى ألوان جلبوه من سائر القارات وخيروك فيه ما بين ما لذ وطاب من صيد البحر أو قنص البر أو تربية الصحاري والبراري.
وقد غدونا نتلقى ذلك وكأنه أمر قد عاشه الأجداد. مع أنه لم يتهيأ لهارون الرشيد،ولا لأي ملك مثله سعيد، وناهيك بهذا القصر الفخم الطائر الذي يبردونه مادام على الأرض ثم يدفئونه إذا حلق في الجو، بل إنهم يكيفونه وفق ما أردت واحتجت من هواء كاف لك وأنت قد صعدت في السماء، وسوف يغدو صدرك بدون ذلك ضيقًا حرجًا لا يهنأ لك مقام، فضلًا عن الطعام في هذا القصر الفخم الطائر.
مما سبق نجد أن لحظة العبور عند الرحالة السعوديين جاءت ما بين وصف للأحوال النفسية من توتر واستسلام للرحالة عند ارتفاع الطائرة عن موطنه المملكة العربية السعودية، وتارة أخرى يبين ما لحق الرحالة من متاعب ومشقة أثناء سفره، خصوصًا إذا كانت هذه الرحلة تستغرق ساعات أطول أو كانت عبر وسائل النقل التقليدية، وفي أحيان أخرى جاءت محطة العبور لتقدم معلومات لتضفي للمتلقي ثقافة هذا المجتمع وتقدم معلومات تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية للبلاد المراد زيارتها.
** **
د.فهد عدنان الشمري - دكتوراه بالأدب والنقد والبلاغة
منصة إكس:- Fahad2626