منذ بدأت خطواتي الأولى تأخذني إلى متاهات الحياة، في قريتي الألمعية الصغيرة، التي تحيط بها الجبال من ثلاث جهات كحدوة الحصان، كنت طفلا بين أبوين رحيمين، أمي معلمة وأبي ملهم.
كانت أمي تحرص على تعليمي في المدرسة الحكومية، أقرأ وأكتب، وأبي يريد أن أعيش التجربة في مدرسة الحياة، أرعى الغنم وأزرع الأرض، كنت في صراع داخلي مع نفسي ومع من حولي، سألت نفسي: لأي مدرسة أنتمي؟ أذهب صباحا إلى المدرسة ثم أعود قبيل الظهر إلى البيت، أخرج مجددا مع أبي لرعي الغنم وحماية السنابل من الطيور، أعود عند الغروب إلى البيت منهكا، لا أعرف كلمة لا ولا ألف، أذاكر دروسي على ضوء السراج، أنام متعبا في حر أول الليل وبرد آخر الليل، الفقر هو الظل الذي يتبعنا في ذلك الزمن.
أمي في الصباح توصني بالدراسة، وعند المساء أبي يحذرني من الغفلة عن الغنم حتى لا يأكلها الذئب.. وأنا أكتفي بهز رأسي سمعا وطاعة.
ذات يوم هربت من المدرسة، آليت على نفسي ألا أعود لها، قرار طفولي خطير، أخذت أمي بشحمة أذني تأدبني على فعلتي، لم تبح لأبي بشيء قبل أن يسمع ذلك من الجيران، بت تلك الليلة خارج المنزل عقابا لي، وأمي تذرف الدموع خلف الباب الذي أحكم أبي إغلاقه، وتوعدها بالويل لو فتحت لي الباب، وفي صباح قذفت أمي الحقيبة في وجهي ودموعها تسيل على وجنتيها عتابا وحزنا علي، وأمرتني بالذهاب إلى المدرسة مع قليل من التهديد بعدم ترك المدرسة ثانية، ذهبت وأنا أترنح منهك الجسد سهران أسفا، كنت أحس بألم في أذني حيث إنشبت أمي أظفارها بالأمس.
في يوم صيفي كنت راعيا مع الغنم وقبيل الغروب هجم ذئب على الغنم، وأنا طفل صغير ليس بيدي غير عصا أهش بها على الحشرات، كان الذئب شرسا هربت الغنم مسرعة وأنا بقيت في مواجهة الذئب وجها لوجه، وهو مكشر عن أنيابه كالمخرز، ليس بيني وبينه إلا بضع خطوات، انتابني الهلع، لأول مرة أشاهد الذئب، كنت أسمع عنه من أبي، حاولت استجماع قوتي وأنفاسي تتسارع ونبضات قلبي الواجف تمور في صدري كالطاحونة، كان مشهدا سينمائيا يحبس الأنفاس، أيقنت أنني هالك لا محالة، قبل أن تدوي طلقة من بندقية أبي كانت كفيلة بأن تجعل الذئب يهرب، وله عواء يملأ الوادي، عدت خائفا ولم تغمض جفوني تلك الليلة، هدأت أمي من روعي، بينما وبخني أبي ونعتني بالجبان، وأمي أخذت تلوم أبي، ونشب الصراع بينمها تلك الليلة.
نسيت ذلك الموقف بعد أيام، لكني خرجت بتجربة قاسية، سردت القصة لزملائي في المدرسة، وعن شجاعتي الزائفة في مواجهة الذئب، ومن ذلك الحين جعلوني بطلا، ولم يعد أي تلميذ يسرق فسحتي، كبرت أنا وأحلامي وتجاربي وتخرجت من مدرسة أمي ومدرسة أبي بكم من المعارف والعلوم، لقد استطعت أن أجمع بينهما حتى لا أغضب أحدهما.
وبعد أعوام رحلت أمي ثم رحل أبي بعدها بشهر هجري، حزنت عليهما حزنا كبيرا، ولم أرو مغامراتي في طفولتي لأولادي، فلم تعد الحياة هي الحياة، لكن برحيل الوالدين فقدت روح الانتماء للمكان، لم يعد شيئا يبهجني، أصبح إحساسي بالحياة معدوما.
** **
- عيسى مشعوف الألمعي