يفتتح بارث كتابه درس في السيميولوجيا بمقاله المشهور (لذّة النص) بتساؤل هل القراءة هي عملية استهلاك؟ في هذا الطرح تكمن فلسفة رؤيته عن ما يربط القارئ بالنص، بمعنى أكثر دقّة ما هي الوشائج أو الفروق بين الحسي والجمالي، فقد ارتقى أسلوبه إلى فلسفي ممتع حقاً، وهو إشراك القارئ في فهم النص، أي بلورة مفاهيم أخرى غير تلك التي في قصدية المؤلف، وهذه المفاهيم تأتي من القراءة، كل قارئ له طريقته في القراءة التي تنعكس في تكوين فاعلية إنتاجهم للنص، وهذه العملية تعطي النص روح التجدد مما ينعكس إيجاباً على استدامته ومن ثم استمراريته، وهو ما يلتقي فيه مع زميله جاك دريدا في عملية تفكيك التفكيك أي عدم الركون إلى معنى واحد، بل معان تتجدد من خلال إعادة إنتاج التحليل عبر إستراتيجية التفكيك، فلا يوجد تفكيك نهائي، وهذا تماماً ما اتفق عليه الاثنان بارث ودريدا وهي أنّ عملية إعادة الخلق تأتي من خلال تعدد وتنوع القراءات بالنسبة لبارث، ومن إعادة تفكيك التفكيك بالنسبة لدريدا لذلك نرى إنّ بارث جعل هذه المعادلة نص المتعة ونص اللّذة في مؤلفه لذّة النص في كتابه الرائع درس في السيميولوجيا:
1- نص المتعة (القراءة سلسلة)
2- نص اللّذة (إرباك القارئ من خلال اختلاف توقعاته)
وأهمّ ما ركّز عليه الكتاب هو الرفض المطلق لأيّ تفسير أحادي للنص، وهذا تطابق تمَّ بين رؤى كل من جاك دريدا بتفكيك التفكيك والجرجاني بمعنى المعنى، فالنص ينتمي لكل قراءة جديدة، بل لكل قارئ جديد، وإنّ المؤلف قد وضع نصَّه ولم يعد له حقّ في أي تفسير آخر، بل أصبح كلُّ الحق للقارئ هو من يسبر أغوار هذا النص ويستخرج لذّته ويستنبط منه معنى آخر. فتتحوّل القراءة من عملية استهلاك للمعنى إلى عملية مساهمة في خلق المعنى، بل المعاني من خلال الحسيّ والجماليّ والاستدراكي وهكذا يتحوّل الاستهلاك إلى إنتاج، بتنحية سلطة المنشئ التي أصبحتْ مملة، بل ليس لها وجود في عملية القراءة المتجددة.
مفهوم إقصاء المؤلف
« (La mort de l’auteur) كان عبارة عن فكرة نقدية قدّمها المفكر والناقد الفرنسي رولان بارث في مقالته الشهيرة «موت المؤلف» التي نُشرت عام 1967 وهي تُعدّ من أبرز النصوص التأسيسية في التحول نحو ما يُعرف بـ ما بعد البنيوية في الدراسات الأدبية والنقدية، فالمضمون المجازي لهذه الفكرة يقوم على فكرة تدعو إلى فصل النص عن مؤلفه والتخلي عن اعتبار المؤلف هو المرجع الأساسي للنص، حيث استعار مصطلحاً كان صادماً وقتها هو (موت المؤلف) ليحلّ محله القارئ فهو الوحيد المخوّل لفهم النص وفقًا لثقافته ووعيه حسب رؤية بارث، فالمعادلة التي وضعها بارث تبنى على معادلة (موت المؤلف = ولادة القارئ)، حيث وضع أُسساً دقيقة لمنهجه الجديد هذا، وهذه الأسسس تتمثَّل بـ:
1- لا سلطة تفسيرية للمؤلف، بمعنى لن تكون نيته أو سيرته أو ثقافته مرجعاً أو شرطاً لتفسير النص
2- استقلالية النص، بمعنى أن يتحوّل النص إلى كيانٍ مستقلٍ، فالمؤلف قد وضع النص وانتهى عمله ولم يعد المؤلف مالكًا له، حيث يصبح النص حقلاً مفتوحًا للتأويل، متعدد المعاني، لا يمكن اختزاله في قصدية مؤلفه
3- يتحوّل القارئ إلى مركز النص، وتفسير بارث لهذا، أنّ المعنى لا يخلق في ذهن المؤلف فقط، بل في ذهن القارئ أيضاً من خلال وعيه وثقافته عن طريق عملية التأويل، هذه العملية تحوّل القارئ إلى شريك في إنتاج النص.
4- اللغة وهي أداة التوصيل أهم من الفرد، فهي الفلك الذي يدور به النص، أمّا المؤلف فما هو إلا أداة تستخدمه اللغة في عملية إنتاج المعنى والمعروف عن بارث أنّه بدأ كناقد بنيوي، لكنّه قد تمرّد على البنيويين بعد أن أدرك أنّ النزعات البيوغرافية والواقعية والوجودية قد قدّست المؤلف وظروفه وتأريخه الشخصيّ وحالته النفسية وجعلته الفلك الذي يدور به النص وتدور به عملية تفسير النص، ليدرك أنّ هذه العوامل في الحقيقة لا علاقة لها بالنص، فهي عوامل خارجه تماماً ولا يجب أن تأخذ في الاعتبار في عملية تفسير النص، وإنّما يجب الاحتكام إلى فنيّة النص فقط، وهو بذلك يترجم عملياً، فشل جميع المذاهب الأدبية مثل المذهب النفسي أو التأريخي أو المتكامل، ويحتكم فقط إلى المذهب الفنّي أي إلى فنيّة النص دون أيّ عوامل خارج هذا النص، الذي جعله كياناً مستقلاً بعيداً عن صاحبه، أي أعطى للنص استقلالية تامة عن مؤلفه، وهو بهذا قد انحرف 180 % عن آراء وفلسفة البنيوين الذين كان واحداً منهم، وقد ترجم تأثره الواضح والكبير بنزعة عالم اللسانيات سوسير في اللغة، حيث تُفهم العلامات من خلال علاقتها ببعضها، لا من خلال مرجع خارجي، وهذه أبرز خلفيات فكرة بارث حول مفهوم موت المؤلف والتي أُصرُّ على تسميتها فلسفة النص، ولعلّ آراء بارث هذه والأسباب التي دعت إليها، بل وحتى مسببات هذه الدعوة، قد اختصرها ميشيل فوكو في جملة واحدة لها دلالات متشظية وعميقة وهي قوله (ما المؤلف؟)؛ إذن إقصاء المؤلف هي دعوة إلى إلغاء مركزية المؤلف كمرجع رئيسي للنص الأدبي، وفتح المجال لتحديث فهم النصوص بشكل مستمر عن طريق تعدد القراءات.
جاءت دعوة بارث في سياق عصر ما بعد الحداثة، أي ما بعد البنيوية وفي ظل الانتقادات التي وُجهت للبنيوية وأزمتها الفكرية، ركّز بارث على فكرة إنّ النصّ يجب أن يتحرر من المؤلف ليُعاد تشكيله مع كل قراءة، حيث يلعب القارئ دورًا أساسيًا في إنتاج معاني النص، وبهذا يكون القارئ وفقًا لبارث، ذلك الفضاء الذي تنطلق فيه الاقتباسات والأفكار التي يتألف منها النص، مما يجعل وحدة النص ليست في مصدره، بل في وجهته المتمثلة في الجمهور.
تميّز بارث برؤية نقدية عميقة وبثقافة واسعة، وكانت دعوته إلى إقصاء المؤلف جادة ومنهجية، وليست مجرد فكرة عابرة، هدف من وراء هذه الدعوة إلى دفع الوعي الأوروبيّ من الجمود التقليدي نحو آفاق جديدة من البحث والمعرفة، وقد حظيت دعوته باهتمام كبير في الأوساط الأدبية والثقافية، حيث شكلت ثورة ضد النقد التقليدي الذي كان يعتبر العمل الأدبي نتاجًا مشتركًا بين المؤلف والنص والمتلقي، وأيّة دراسة للعمل الأدبي يجب أن تتضمن دراسة حياة الأديب والسبب وراء تأليف هذا العمل، وهو ما لم تسلم به البنيوية، حيث دعت إلى موته، في المقابل رفضت البنيوية هذا التوجه التقليدي، مؤكدة أنّ تحليل النص الأدبي ينبغي أن يركّز على اللغة بذاتها على افتراض أنّ النصّ يتكون من بنى لغوية، بما تحمله من تراكيبٍ وألفاظٍ، بعيدًا عن حياة المؤلف أو نواياه، وإسناد تأويل وتحليل العمل الأدبي إلى اللغة من حيث الألفاظ والتراكيب التي استخدمها المؤلف للتعبير عن أفكاره وآرائه؛ وهذا ما قاد إلى انغلاق النص على ذاته، بل حلّ الناقد البنيوي مَحِلّ المؤلف، فأصبح تحليله هو الفصل وهو هكذا تحوّل الناقد البنيوي إلى (الخصم والحكم) في آن معاً، وهذا ما قاد بارث إلى التمرّد عليها، ومن ثم ليُحلّ محِلّها نظريّة النص والتي قادت إلى مفهوم إقصاء المؤلف، سواءً كان مؤلف النص الحقيقي أو المؤلف البنيوي، كان رولان بارث بمثابة العرّاب الحقيقي لهذه الفكرة، والتي استند إليها جاك دريدا لاحقًا لتطوير نظريته في التفكيك، مضيفًا إليها أبعادًا جديدة وموسّعًا من تأثيرها في الفكر النقدي لعصر ما بعد الحداثة، وإذا سلّمنا جدلاً أنّ للمناهج النقدية غاياتٍ فكريّة تتطور وتتحدد وفق هذا المنهج النقدي، وهذا يُولّد سلفاً سلطة محددة ممنهجة على أيّ ممارسة في التحليل المباشر للنصوص الأدبيّة، وحتى نحرّر النصّ من أُحادية المنهج ونجعل القراءة النقدية متحررة في اختيارها العملي التحليلي يجب فكّ ارتباطها الفكري بمناهج نقدية بعينها، وهذا ما يعطي للناقد وفي هذا الحال هو (القارئ نفسه) حريّة الوصول إلى استنتاجاته الخاصة، طالما كان يعي آليات القراءة والاستنباط، وهكذا تتعدد القراءات وتتعدد زوايا النظر إلى النص مع كل قراءة جديدة، وهنا نصلُ إلى عزل أو موت أو إقصاء المؤلف الذي أنجز عمله بوضعه للنص، ولم يعد من حقّه أيُّ تبرير أو تفسير ثاني لهذا النص، حيث تحوّلت السلطة في التحليل والاستنباطلى القارئ، والذي تحوّل بدوره إلى فلك النص، وهنا يصل كلُّ قارئ إلى لذّته الخاصة للنص الذي فهمه منه ما فهم، وبتعدد هذه القراءات تتعدد المفاهيم الاستنباطية للنص وتتولد المتعة وتتعدد زوايا النظر إليه، وبإضافة عامل الزمن إلى هذا النص نراها وقد حاز على قراءات كثيرة واستنتاجات متعددة وحياة أطول وحضوراً أخّاذاً يتجدد مع كل قراءة، وهنا مكمن الفكرة (لماذا ندعو الى إقصاء المؤلف) هذا المؤلف الذي استنكر واستغرب ميشيل فوكو وجوده في النص بقوله (ما المؤلف؟)، إنّ الاحتكام إلى النص هو الفلسفة والمنهج الذي اتخذه بارث بعد أن أدرك قصور النظرة البنيوية في الوصول إلى استمرارية قراءة النص، بل أكثر من هذا قصورها على الاستمرار كنظرية نقدية قادرة على التواصل في عصر ما بعد الحداثة، فكان لا بد من القفز من مركب البنيوية الذي بدأ يتخلف كثيراً عن مسايرة تطورات عصر ما بعد الحداثة، لذلك قفز بارث من هذا المركب إلى مركب آخر وهو مركب النص وبدأ بمهاجمة وانتقاد التفسيرات الأحادية للبنيويين، حتى أسس نظرية بأكملها هي (نظرية النص)، حيث أصبح بارث وعن جدارة فارس النص ومتربعاً فوق سنام نظريات النقد، كما وصفه ناقد بثقل الدكتور عبدالله الغذامي، حيث قال (لم يحظ أحد بالتربّع فوق سنام نظريات النقد مثلما حظي رولان بارث الذي قاد طلائع النقد الأدبي لمدة ربع قرن، وما تزحزح عن الصدارة قد،لأنّه وهب مقدرة خارقة على التحوّل الدائم والتطور المستمر مما حقّق له صفة أهم ناقد أوروبي) ينظر كتاب عبدالله الغذامي الخطئية والتكفير، بل إنني أعزو كل تطورات النظريات النقدية التي جاءت بعد البنيوية إلى رؤية بارث وتنظيراته وتحليلاته وتطبيقاته، مثل النظرية التشريحية، نظرية النص، نظرية القارئ، نظرية التفكيك، نظرية النقد الثقافي، نعم كان لجاك دريدا فضل كبير في نهاية عصر المؤلف، هذا إذا علمنا أنّ كليهما كانا من نقاد مجلة تل كويل، وقد طبّق كل منهما ما نظّر إليه بدقة وروعة متناهية وخاصة فيما يخص نموج لبلزاك وهي قصة (ساراسين) والتي قام بتشريحها أوّلاً ثم قام بعمل مذهل، حيث استنبط منها تعابير لغوية وظيفية، تمثَّلت كل وحدة منها بوحدة وظيفية اكتسبت مظهر الاستقلالية الوحدوية لكن جعل من القصة تحتفظ بنسيج درامي موحّد، وما نراه في هذا المثل، عبقرية متفردة في التحليل والاستنباط، سرعان ما تحوّلت إلى نظرية بعينها (نظرية النص)، عندما أوجد خمس شفرات تنظم دللات النص وهي (شفرة التفسير، شفرة الحدث، شفرة الثقافة، شفرة الضمنية، وشفرة الرمز)، هذه الطريقة لم تكن معروفة قبل بارث، بل لم يستخدمها أحد قبله، لكننا نراه قد استخدمها كي يعطي دلالات متعددة لتحليل كل جملة من جمل النص، وبذلك يرسل إشارة واضحة وكبيرة إلى إمكانية أن يكون لكل نص أكثر من تفسير وأكثر من تحليل، وهذا مرتبط بثقافة القارئ وقدرته على الاستنباط، وبالتالي قادت هذه الفلسفة أو هذه الطريقة أو هذه الرؤية إلى فتح النص أمام تعدد القراءات، وفي هذا يقول الغذامي (وبذا يفتح بارث آفاق السيميولوجية لتقود النقد إلى مسارات جديدة تأخذ بمبادئ الألسنية وتستثمرها في فتح آفاق النص الأدبي)
** **
د.رسول عدنان - أمريكا