في عنوان هذه الورقة ما يكفي من التباين الشكلي، ولكن في جوهره تكمن إشكالية هذا الديوان الذي دفعتنا عتباته إلى اقتراح مداخل قراءته. يثير هذا الديوان جملة من الأسئلة، وقيمة أي عمل أدبي تكمن في قدرته على إثارة الإشكاليات النقدية، ومنها إشكالية الشعر والسيرة، وإشكالية الأنا والآخر.
إشكالية الشعر والسيرة:
يقول محمود درويش: إنّ كلَّ عمل شعريٍّ (والكلام عن شعره) هو محاولةٌ لكتابة سيرة ذاتية لاستعادة البدايات، ويقول أيضاً: ما يَعْني القارئ من سيرتي.. مكتوب في القصائد. هذا التصور الدرويشي يختلف مع التصور الذي يقول فيليب لوجون عن السيرة الذاتية، إذ يستبعد أن يكون الشعرُ سيرةً، أو أن تكون السيرةُ شعرًا؟
لقد اعتدنا أن نقرأ السيرة في الأعمال الروائية، ففي السرد نستطيع أن نقتفي آثارها، فهل نستطيع أن نلتمس «سيرة ذاتية» في الشعر؟ وهل كتابة الشعرِ هي شكل من أشكال كتابة الذّات؟ وكيف لنا أن نقرأ سيرة الشاعر من شعره؟ وهل الشعرُ يصلحُ أن يكونَ «سيرةً أخرى» لقائله؟ وأين نعثر على سيرته الأولى؟
يُعرّف فيليب لوجون السيرة الذاتية بأنها: حَكْيٌ استعاديٌّ نَثْرِيٌّ يقومُ بهِ شَخْصٌ واقعيٌّ.. يُركّزُ فيه على حياتهِ الفَرديّةِ، وعَلى تاريخِ الشخصي. إذا كانت مقولة محمود درويش «هي الأطروحة»، فإن تعريف فيليب لوجون للسيرة، هو «نقيضها»، فكيف لنا أن نؤلفَ بينهما؟
أشار العقاد في كتابه «ابن الرومي» إلى إمكان أن يكون الشعر صورة معبرة عن شخصية قائله، فقال في عنوانه الفرعي «حياته من شعره». وهذا التصوري الذي يشير إليه العقاد، نتلمس جذوره في الشعر العربي القديم والمعاصر والحديث، يقول حسان بن ثابت:
وَإِنَّما الشِعرُ لُبُّ المَرءِ يَعرِضُهُ
عَلى المَجالِسِ إِن كَيسا، وَإِن حُمُقا
ونقرأ لمحمود سامي البارودي قوله:
فَانْظُرْ لِقَوْلِي تَجِدْ نَفْسِي مُصَوَّرَةً
فِي صَفْحَتَيْهِ، فَقَوْلِي خَطُّ تِمْثَالِي
ويتردد صدى هذا التصور في ديوان أبي القاسم الشابي، فله أكثر من قصيدة، منها «قلت للشعر»، و»شعري»، يناجي فيها الشعر على أنه حكاية حياته، وصورة وجوده، مثل قوله:
أَنْتَ يا شِعْرُ قصَّةٌ عن حياتي
أَنْتَ يا شِعْرُ صورةٌ مِنْ وُجودي
يشترط فيليب لوجون أن تكون السيرة نثراً، والشعر قوامه التخييل، إلا أن الشعر قد تكون له وظيفة إخبارية، وسردية يومية للذات، وبالتالي يمكن أن يتحولَ القولُ الشعري إلى ما يشبه «السيرة» إن لم يكن «سيرة» بالمعنى الحرفي، غير أن هذا السرد لا يتطابق -بالضرورة- تطابقا تامًّا مع الواقع.. إلا أنّه مَشُوبٌ بهِ. فإذا كان الكاتب (أو السّاردُ) في الأعمالِ النثريّةِ باستطاعته التخفي، فكيف بالشاعر، وهو أكثر توغُّلًا في المجاز، وأبلغ إمعانًا في التواري؟
إنّها لمهمةٌ صعبة أن نحاول القبضَ على سيرةِ الشاعر من شعره، وربما تكون مستحيلة، كما هي مهمة توم كروز في فيلم Mission: Impossible- وتصبح المهمةُ أكثر استحالة حين نكونُ أمام «سيرة أخرى» تكتبها «امرأة» -كما يخبرنا الشاعر نفسه- فقال في الإهداء: «إلى المرأة التي كَتَبَتْ في عشرين عامًا سيرتي الأخرى».
نحاول في هذا المقال أن نقتفيَ أثر تلك السيرة، وأولها سيرة الولادة، فقد استدعى الشاعر النَّحْويّ في مقطوعة «قِمَاط» -وهي قِطْعة القُماش التي يُلَفُّ فيها المَولود- سيرة طفولته، فيقول:
ولدتُ بيوم الحب، والشعر لفّني
ببردته البيضاء لفًّا وقمّطا
على جسدي حطّت سحاباتُ نسوةٍ
عشقن؛ ليغدو للصبابات مهبطا
وبي نزلت خيلُ المحبين، فاستوت
ضلوعي لتلك الخيل مأوى ومربطا
رعى اللهُ أمي ما رأت غيرَ عاشقٍ
على رمشه يغفو بأحلامه القَطَا
فهذا الطفل/ الشاعر لم يقمط بقطعة قماش مثل بقية الأطفال، وإنما قُمّط بالشّعر، وحطّت على جسده «سحابةٌ من نُسْوةٍ»، وكأننا أمام مشهدٍ أسطوريّ تحفُّ به «العرائس»، أو «حوريّات البحر» في حضرة الشعر. ويستدعي الشاعر حكايات تلك الأنثى التي تعبرُ عن سيرة العمر في قوله:
تحكي لقلبي سيرةَ العمر الذي
ما زال عن أمرِ الهوى مشغولا!
شهقت بروحي إنها الأنثى التي
جعلت حروفي للضلوع رسولا
قرأتْ ومالت نحو صدري إنها
تخشى إلى صخب الغرام وصولا
وترددت في أن تبوحَ، وكنتُ في
غَمْرِ التردد قاتلًا مقتولا
لعل هذه الأنثى التي شهقت بروح الشاعر؛ لتحكيَ سيرةَ العمر، هي تلك «المرأة» التي صادفناها في الإهداء تكتب «سيرة أخرى» له. وفي مقطوعة أخرى، تتجلَّى لنا سيرة الذّات العاشقة المتمردة، فيقول:
أحبُّكِ يا بنتَ الذين تمرّدُوا
على الخوفِ؛ حتى أصبحوا سيرةً أخرى
بنو الحبِّ فيهم حينما الشمس أشرقتْ
مجدّلةً، فلّوا جدائلَها فلّا
ولما دنتْ منهم بناتُ سحابهم
مكحّلةً علّوا قواريرَها علّا
أحبوا، وكدنا أن نكونَ بحبِّنَا
ضحايا، فمدّوا؛ كي نعيشَ لنا حَبلا
إن استدعاء الشاعر لرموز الحب وضحاياه في قوله «بنوال حبِّ»، شكل من أشكال استعادة الذّات، ولكن من خلال أقنعة رمزيّة تتكلمُ الذات من خلالهم، وتعبر بلسانهم، فكما هم أصبحوا «سيرة أخرى» في التاريخ بسبب ما تناقله الرواة من قصص حبهم الأسطوريّة، فكذلك هي حال الذات الشاعرة مع «بنت الذينَ»، فهي تأملُ في أن تكون «سيرة أخرى» تكتبها امرأة؛ لتبقى الحكايةُ خالدةً.
ويعدُّ الاعتراف عنصراً مهماً في أدب السيرة.. وفي الديوان أصداء من ذلك، يتمثَّل في سرد الشاعر لتجاربه اليومية ومغامراته ومجازفاته، فعندما يبوحُ الشاعر بما في خلجات نفسه، فعبَّر عن «يومياته» في مقطوعات شعرية متوالية؛ وكأنه يروم الانعتاق من استلاب الذات بكتابة سيرتها اليوميّة؛ رغبةً في مواجهة العدم، وستكون الأنثى هي (المُخَلِّص)، وهي (مُحَرِّرَة الذَّات)، و(كَاتِبة سيرتها)، ولذا هي تتسلّل في الديوان بملامحها أكثر من اسمها، من قبيل «الكحل الحلبي»، و»اليَمَامَة الشّاميّة»، و»الغيمة الحلبيّة»، ولعلها هي تلك الأنثى التي صرّح لنا الشاعر بأنها تكتب «سيرةً أخرى» له منذ عشرين عامًا.. وَلَسْنَا بالغيها إلا بشقِّ الأنفس!
إشكالية الأنا والآخر:
نحن أمام ديوان شعري مكوّن من مئة مقطوعة شعرية، تحكي ملامح من «سيرة» قائله، وتجسد هذه المقطوعات وجها من حَيَواتٍ كثيرة للشاعر، فلو جمعنا هذه الملامح إلى بعضها، أصبحنا أمام لوحة فسيفسائية، تروي سيرة الذات في علاقاتها بالآخر. وهذا «الآخر»، هو جزء من سيرة الذات، ومرادف لها، فهو قد يكون «عاشقًا»، وقد يكون «معشوقًا»، فتحضر الأنا المعشوقة، وكأننا أمام تجربة عشقية ذات ملامح نزارية:
قالت: أحبك، فاسترني، وما برحت
تقتات من مؤمن بالنار متقد
من نشوة عبثت بالرأس، وانتفضت
كالموج، لما طغى الطوفان في جسدي
في العمر فصل تعالى أن يشعشعه
إلاكَ بالماوراء الماءِ والبردِ
إني ضللت بما يكفي، وأنبأني
هواكَ، إنك مجنون، فخذ بيدي
هذا النَّفَسُ النّزاري شائعٌ في الديوان، وقد تناول النّقاد ظاهرة «ذاتية العاشق»، أو»تأنيث الذات» في شعر كلٍّ من نزار قبّاني، وعمر بن أبي ربيعة، ولعلنا نجدُ صدى لذلك في هذا الديوان، مثل قوله:
قالت: أحبك، قبّلني على عنقي
مُهَمهمًا، واصطبح من خمر همهمتي
ومل على مسمعي.. شعشع حبابتَه
كي نرتوي من خوابيها بوشوشةِ
واقرأ حناياي، عطّرها إذا ارتجفت
بدفءِ قربِكَ، واغمرها بنمنمةِ
يا سيدّ الحبِّ، وابدأها بأضحيةٍ
في يوم عيدكَ، واختمها بملحمةِ
يصبح الحبُّ -هنا- صبوحًا عُمَريًّا، وغمرةً نزاريّة.. ويمكننا أن نلاحظَ ذلك الصخبَ الإيروسيَّ الذي تثيره القبلةُ، والهمهمةُ، والشعشعةُ، والخابيةُ، والوشوشةُ، والنمنمةُ، والرجفةُ.. حتى كأنّ الديوانَ حقلُ ألغامٍ يتفجّرُ بالرّغَبات.
وعلى ضفةٍ أخرى تتجلَّى في الديوان الأنا العاشقة، وهي تروي سيرتها مع الحبِّ، فيحضر (الآخر المعشوق) بوصفه جزءًا لا يتجزأ من سيرة (الأنا العاشق):
أتحبها؟
أبدًا.. ولكني أموتُ بحبها!
وأريدُ أن
أحيا كنسرين الغرام بقربها!
وأريدُ أن
أمسي كعقدة ربطة في جيبها!
وأريد أن
أغدو كريشة طائر في كتبها!
أتحبها؟
أبدا.. ولكني نذرت بأن
أبلل كلّ عرق في الوجود، وفي
خلاياي التي نبتت كدالية الهوى من نخبها!
وثمة تجلٍّ آخر للحبّ في الديوان، يمكن أن نطلقَ عليه «الحب اليقيني»، إذ نُلمُّ بحبٍّ أوله اليقين، وأوسطه الجنون، وختامه يتنافس المتنافسون:
إني من القوم الذين بحبهم
مهما بهم كاد العواذل يؤمنون
ومن الذين ترى الصباح يفزُّ مثل الشوق من أرواحهم وعلى الأرائك ينظرون
الحب أوّله اليقين
وفي دمي تجري سفينةُ آلهِ أَممًا
بحفظ الله؛ كي ترسو بجنة عدنه، والحب أوسطه الجنون
وختامه مسكٌ، وفي أجر الهوى يتنافس المتنافسون
ومن تجليات الأنا في الديوان حضور «الأنا الإنسانيّ»، الذي يحنو على الطفل اليتيم، ويشارك الفلاح والخبّاز والبائع أدوار حياتهم، فتمتزجُ الأنا بالآخر في سيرةٍ واحدةٍ:
دعني إذا
انصرف الطّلاب أنظر في
عيونهم؛ لأرى الأيتام في الحدقِ!
هناك طفل
يرى سيارتي وقفت
كيما تُقلُّ صغيري دونما قلق!
يأسى
ويسأل، هل يأتي؛ ليأخذني
أبي وأفرح، أم أبقى على الطرق؟
أنا أبوك
فخذ قلبي؛ ليمسح عن
عينيك ما فاض من حزن، ومن حرق!
ويقول:
لو كنتُ
فلّاحًا؛ لوزّعتُ الورودَ
على بيوتٍ لا ترى شكلَ الخمائلْ!
لو كنتُ
خبّازا؛ لأوسعتُ الرغيفَ
لكلِّ محتاج يباركه وسائل!
لو كنتُ
بائعَ خضرةٍ؛ لأضفتُ للـ
ـميزان قلبي؛ كي يضيءَ بوجه ماحل
لو كنتُ
سيّد بيدرٍ؛ لحرصتُ أن
أغفو مع الفقراء في حضن السنابلْ!
تُسردُ الذّاتُ في هذا الديوان بضمير المتكلم -غالبا- فهو الضمير الأكثر ملاءمة لكتابتها، والبوح بما يختلج في دواخلها من مشاعر وأحاسيس، ورؤىً ومواقف، وقد كشف لنا الشاعر النحوي عن إرادته تلك منذ عتبات الديوان الأولى.. في محاولة منه لاستعادة الذات بالشعر والسيرة معًا.. انفتاحًا منه على فضاء الشعر، وفضاء السيرة. فإذا كان الشعر أكثر ذاتية وانفعالية، فإن السيرة أكثر واقعية.. فبين السيرة والشعر أمشاج وأثباج؛ لأنّ «الغرض من الصناعتين واحد، وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل القبول؛ لتتأثر لمقتضاه، فكانت الصناعتان متآخيتين؛ لأجل اتفاق المقصد، والغرضِ منهما». حسب القرطاجني.
فحين يتغزل الشاعر النحوي أو يتأمل.. أو حين يعبر عن موقفه من الحب، أو الفن، أو الحياة، أو حتى عن آرائه اليومية، فهو يسرد لنا ذاته شعراً، ويحررها بالكتابة سردًا.. وكأنه يحاول أن يقدم لنا ذاته المتبعثرة، وهويته المتناثرة في أكثر من نوعٍ أدبيٍّ: شعرًا وسردًا وسيرةً.. ولهذا نلاحظ أن الشاعر النحويَّ انتحى -على صفحته في الفيس بوك- نحو تعالق الفنون، فجعل كل نص شعري متعالقًا مع لوحة ضوئية، أو تشكيلية، أو مع قطعة موسيقية؛ رغبة منه في استعادة الذات، وإقامة كيانها بالكلمات، والموسيقى، والألوان.. فتصبح الفنون -حينها- فضاءً لإعادة تأسيس الكيان.
فكأن كلَّ شاعر حينما يناجي ذاته، أو يتأمل في أشياء العالم، أو يتغزل في عينيْ حبيبته.. فهو يبثُّ نفحة إنسانية جديدةً من روحه في روح الحياة، فالفنون؛ وإن كانت ذاتيَّةَ المنبع إلا أنّها إنسانيَّةُ المصَب.
إذا كان لنا أنّ نعدَّ عتبات الديوان الأولى إحدى موجهات القراءة؛ فإننا نفترض أن الديوان سيرة أخرى للشاعر، إلا أن فيه مقطوعاتٍ شعرية لا تلامس «الحياة الفردية» التي تحكي «سيرة صاحبه بصفة خاصة»، وهذا ما جعلنا نشعر بأنها مقطوعات غير متلائمة، فكانت سيرة لأكثر من ذات؛ فوقع الديوان في النثر اليومي الذي فرضه التزام الشاعر بالكتابة.
تشيع في الديوان الجمل الاعتراضية الطويلة، فإذا كان للجمل الاعتراضية وظائف في إفادة الكلام، منها التوكيد أو التوضيح أو التفسير أو التحسين.. إلا أن شيوعها أوقع الديوان في النثر اليومي على حساب الانفعال الشعري.
تبلغ مجموع مقطوعات الديوان (الصادر عن دار كليم للطباعة والنشر بالقاهرة، ط1، 2024م) مئة مقطوعة شعرية قصيرة، والقطع القصار «أولج في المسامع، وأجول في المحافل»، كما يرى ابن رشيق.. إلا أن القارئ يحار في تصنيف بعضها بين أن تكون رباعيات، أو قصيدة ومضة، أو خاطرة شعرية.. والديوان -في مجموعه- مكوّن من مقطوعات، ولكل مقطوعة عنوان، والغالب على المقطوعات بأنها مكونة من أربعة أبيات.. إلا أن بعضها مكون من خمسة أبيات، وبعضها قصائد تفعيلة، وثمة مقطوعات كتبت بالوزن الخليلي والتفعيلي معًا.
** **
- جابر الخلف