المجموعة القصصية «لسوادي حلاوة» هي الإصدار القصصي الأول للكاتبة التونسية رحمة البحيري، صدرت في مارس 2022 عن دار بورصة الكتب للنشر والتوزيع بالقاهرة. تتألف المجموعة من تسع قصص قصيرة، منها، تتناول هذه القصص قضايا اجتماعية وثقافية مستمدة من المجتمع التونسي، مع التركيز على مدينة القيروان، مسقط رأس الكاتبة، التي تُصوَّر كإحدى الشخصيات الفاعلة في السرد.
جاء عنوان المجموعة «لسوادي حلاوة» ليعكس فلسفة جمالية القبح، حيث تستمد الحلاوة من عمق السواد. فضلاً عن أن العنوان له ارتباط في كل قصة. كما أن القصص الطويلة التي تمتد بعضها لأكثر من عشر صفحات تظهر معاناة الذات الإنسانية وتأثرها بالبعد الأنثروبولوجي في تكوينها واختياراتها. جاءت افتتاحية القصص بقصة بعنوان «القناص»، في هذه القصة، لا يمكن التعامل مع اللغة على أنها أداة سرد فحسب؛ بل مادة شعورية خام، تنضح بقلق الكائن، وتُخرج لنا داخل الشخصية بلغة تجريدية تنبض بحرارة الصراع. وكأنّنا لا نقرأ قصة، بل نصاً داخلياً تهذي به ذاتٌ محاصرة بين نداء الدم ونداء الروح، بين سكون المجرم وثورة الإنسان فيه.
بدأ القصة بعبارات «دف... دف... دف...».
صوت يفتتح المشهد، لكنه ليس صوتًا خارجيًا فقط، بل هو دقٌّ داخلي، كأنه طبلٌ في صدر الشخصية، أو دقات قلب تستنهضه للثورة أو للانهيار. هذا التكرار الثلاثي يحيل إلى نبض، إلى ما قبل الانفجار. ثم تتتابع الجمل في انسيابية مضطربة، وهذا من مفارقات النص الجميلة.
كل ذلك لا ينتمي لوصف فعل أو مشهد، بل لوصف الحالة النفسية للشخصية. هنا تتحول الكتابة إلى ما يشبه المونولوج الداخلي.
«نبتت لقلبه جوانح؛ علّه يَحلّق بعيدًا عن ثكنته».
هذا المجاز أرادت به الكاتبة رحمة البحيري وصف قلب يريد أن يطير، أن يتحوّل من عضو يرتجف إلى طائر يحلّق.
وفي هذا النص تتجلَّى اللحظة الفارقة: تلك التي يسقط فيها القناع، لا عن الوجه فحسب، بل عن الفكرة. هنا لا نقرأ عن قاتل مأجور أو جندي مأمور، بل عن رجل على وشك الانعتاق من آلة صُنع فيها.
جاء في قصة القناص «ظنّ أنّه قتل تلك المبادئ التافهة، الحقيرة؛ التي لا تسمن ولا تغني من جوع!»وجملة أخرى في النص ذاته:
«إنّ المبدأ مجرّد وهم من صنع الإنسان، فمن أين أتى هذا الحسّ؟».
يبدو أن الجملة تنتمي إلى مبدأ الأشخاص البراغماتيون الذين يرون المبادئ مجرد قشرة فكرية، أو «خرافة» نُسجت لتهذيب السلوك، لكنها لا تملك وجودًا فعليًا في عالم المصالح.
أما في قصة لسوادي حلاوة.
الافتتاحية هنا سردية شعرية، كما أسلوب رحمة البحيري يجنح إلى النثر الشعري المكثّف، حيث العبارات قصيرة، نابضة، محمّلة بالإيحاء:
«قوة ما تهويها وتقمع كلّ ما فيها من إرادة...».
«تستسلم، لا قدرة لها على مجابهة القدر.»
لكن هذه الكثافة لم تُسرد بأسلوب واقعي صارم، بل عُولجت بأسلوب شاعري تراثي، حيث تتعانق اللهجة المحلية التونسية (مثل «كهوّا» و»ريبّي») مع التقاليد المادية للحياة التونسية: «العبانة»، «القيام الأخضر»، «التجليلة»، «كليم»، «الجرابة».
أما في القصة الأخيرة التي تتكون من 12 صفحة وعنونتها الكاتبة (علي ولد الحوات).
اللغة تتردد بين العامي والمجازي، بين الصدق الفجّ والحلم المكسور. وهنا يُصبح النص أقرب إلى اعترافات روحية يكتبها شاب لم يحصل على فرصة ليكون محبوبًا «لطالما حلمت أن أكون محبوبًا مثله»
قصدت الكاتبة أن يكون بطل القصة على رمزا اجتماعيا للتمييز الطبقي أو الأسري داخل الحارة أو القبيلة.
جاء في القصة «نعم أحنّ. ينتابني إحساس رهيب بالحنين.»الحنين في هذا النص قصدت به الكاتبة رحمة البحيري حنين لبراءة مسروقة، وطفولة سلبت.
بطل القصة لا يصف نفسه كشقي، بل يُحاكم نفسه، ويُجلدها: «كنت غبيًا! جبانًا! يعيش في مقارنة مستمرة مع «علي ولد الحوّات»، فيصغر أمام صورته رغم تفوقه الأخلاقي.
يختبئ خلف الحنين، لكنه يعترف أن الحنين نفسه مشوّه، مرتبط بمكان لفظه. يتساءل باستغراب: «لمَ تنهمر المصائب فوق رأسي أنا فقط؟»، وهو سؤال الطفل الذي لم يجد إنصافًا لا من أهله، ولا من منطق الحياة.
باختصار هي فكرة أن الطفل المنبوذ وسط عالم لا يُنصت، يقول لماذا أُعاقب لمجرد أنني وُجدت؟
نص «علي ولد الحوّات» هو صرخة الداخل المتأخر، صوت الإنسان الذي لم يُعطَ فرصة ليشرح نفسه،
السرد في هذه القصة ينتمي إلى أدب المقهورين داخل ذواتهم.
أما اللغة فهي مشبعة بشحنات وجدانية كثيفة، والمفارقات في النص تؤسس لفكرة أوسع: أن الاضطهاد قد لا يكون قانونيًا، بل وجدانياً، مجتمعياً، خفيًا، لكنه يترك أثراً لا يُشفى.
** **
- براك البلوي