يجسد اليوم الوطني ذكرى توحيد المملكة العربية السعودية تحت راية واحدة، وهو يوم يحمل في طياته معاني الوحدة والشجاعة التي صنعت تاريخ هذا الوطن، ونستذكر شخصيات خالدة ترمز إلى القوة والإقدام ما زال أثرها حيًّا إلى هذا اليوم، وفي مقدمتها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ورجاله المخلصون، وفي هذه الذكرى نعود بها إلى سنة 1319هـ/ 1902م حيث اللبنة الأساسية في توحيد البلاد حين عزم الملك عبدالعزيز على استرداد الرياض في ملحمة كانت هي البداية مؤمنًا أن استعادة الرياض هي الخطوة الأولى نحو جمع الشتات وبناء الوحدة.
قبل استرداد الرياض كان الملك عبدالعزيز يعلم أن نجاح مسيرته يتطلب رجالاً أوفياء وإيمانًا بالله، وعزيمة لا تلين، انطلقت الرحلة من الكويت في ربيع الأخر من سنة 1319هـ/ 1902م، وسار الملك مع رجاله نحو أطراف الأحساء، والتحق بهم رجال من القبائل المجاورة، إلا أن بعضهم انسحب في الطريق، فبقي معه ثلاثة وستون رجلاً أوفياء آمنوا بقائدهم وقراره التاريخي، وخلال هذه الرحلة، أرسل الإمام عبدالرحمن الفيصل - رحمه الله - رسالة إلى ابنه عبدالعزيز طالبًا منه العودة إلى الكويت وترك المهمة، لكن الملك عبدالعزيز أنبأ رجاله بطلب والده ولم يجبرهم على البقاء معه، بل قال لهم «أنتم أحرار فيما تتخذونه لأنفسكم، فمن أراد الراحة والرجوع إلى أهله فلينصرف إلى يساري»، إلا أن جميع الرجال وقفوا على يمينه معلنين وفاءهم وعزمهم على مواصلة المسيرة، وألتفت الملك عبدالعزيز إلى مبعوث والده قائلاً «سلم على الإمام، وخبره بما رأيت، وقل له موعدنا إن شاء الله في الرياض».
دخل الملك عبدالعزيز ورجاله الرياض تحت غطاء من الليل، بخطة محكمة حيث كان الجو مشحونًا بالتوتر، والمدينة في حالة ترقب، بينما كانت أصوات خيول الملك ورجاله تخترق صمت الليل حتى تجسدت الملحمة الحقيقة مع بزوغ الفجر، وخروج عجلان بن محمد -أمير الرياض آنذاك- من حصن المصمك هنا انقض الملك عبدالعزيز مع رجاله، لتندلع مواجهة فاصلة أمام الحصن الذي يتوسط بابه الكبير بابًا صغيرًا المعروف باسم الخوخة، حاول عجلان بن محمد الهروب مسرعًا عبر الباب الصغير، حاول الملك عبدالعزيز سحب خصمه وإحكام السيطرة عليه، غير أنه ضربه على خاصرته في محاولة لصدّه، في تلك اللحظة رمى الأمير فهد بن جلوي رمحه المعروف بـالشلفا قاصدًا به بن عجلان لكنه أخطأ الهدف ليستقر في باب المصمك، ورغم أن الرمح لم يصبه إلا أن الموقف خلد اسمه بلقب خالد في الذاكرة ب راعي الشلفا، ولم يطل الموقف حتى تدخل الأمير عبدالله بن جلوي، فانقض على بن عجلان وأرداه قتيلاً، ثم دوى صوته بالنداء الذي صار شعار المرحلة الجديدة «الحكم لله ثم لعبدالعزيز» كان ذلك الإعلان بداية مرحلة جديدة.
راعي الشلفا
وهو فهد بن جلوي بن تركي بن محمد آل سعود، ولد في الرياض سنة 1286/1869م، وقد خرج مع عمه الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي وأسرة ال سعود من الرياض عام 1308هـ/1890م وكان ضمن الرجال الذين شاركوا الملك عبدالعزيز في ملحمة استرداد الرياض منذ البداية إلى حين خروجه من الكويت سنة 1319هــ/1902م، حيث ذكره الملك عبدالعزيز في روايته «... ومشينا ونحن سبعة رجال أنا وعبدالعزيز بن جلوي وفهد وعبدالله بن جلوي وناصر بن سعود ومعنا المعشوق وسبعان....»،
ويعد فهد بن جلوي أحد أخلص رجال الملك عبدالعزيز وأكثرهم شجاعة، ولم يكن مجرد مقاتل في لحظة عابرة، بل كان رفيقًا صادقًا في رحلة طويلة نحو التوحيد، وقد ارتبط اسمه بالشلفا، ذلك الرمح الذي صار رمزًا للقوة والإقدام، أما الشلفا هو رمح عريض النصل ويقال له أيضًا ذي الشعبتين، وتكرر ذكر هذا المعنى اللغوي -الشلفا- في سياقات شعرية كعلامة على الشجاعة والفروسية.
بقي قصر المصمك حتى اليوم شاهدًا على تلك اللحظة التاريخية إذ تحولت جدرانه إلى رمز وطني يخلد معركة الاسترداد، ويقع في قلب الرياض، ويعد معلمًا بارزًا يزوره أبناء الوطن والمهتمون بالتاريخ إلى يومنا هذا، ليقفوا على تفاصيل المواجهة التي شكلت البداية الفعلية والشرارة الأولى لمسيرة التوحيد، ومن خلال ذلك اليوم، استحضرت قيم الإصرار والوفاء والشجاعة، وهي القيم التي يقوم عليها اليوم الوطني وفي كل عام حين تحل هذه الذكرى، نجدّد العهد على المضي قدمًا على نهج المؤسس ورجاله المخلصين ونستشعر عظمة ما تحقق من وحدة وعز ومجد، وهكذا يبقى اليوم الوطني ليس مجرد ذكرى، إنما وعد متجدد بأن راية التوحيد ستظل خفاقة في سماء هذا الوطن.
** **
- عبير بنت ناصر القحطاني