في صفحات التاريخ السياسي للمملكة العربية السعودية، يبرز الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - بوصفه قائدًا فذًّا جمع بين الحكمة السياسية والبُعد الثقافي العميق. لم يكن بناء الدولة السعودية الحديثة مقصورًا على السيف والسياسة فحسب، بل كان للغة نصيبها من هذا البناء، ولا سيما في تجلياتها الشعبية التي شكّلت اللسان اليومي للمجتمع. ومن بين أدواته البلاغية البارزة، برز استخدامه للأمثال الشعبية، وخاصة تلك المتوارثة في بيئة الدرعية، والتي وظفها في مخاطباته الرسمية لتقريب المعاني وترسيخ المفاهيم.
حملت وثائق الملك عبدالعزيز الرسمية عشرات الأمثال التي وظفت بلاغة الموروث الشعبي في التعبير عن مواقف سياسية، أو توضيح قرارات إدارية، أو بث رسائل اجتماعية وأخلاقية، مما يبرهن على وعيه العميق بقوة الكلمة وأثرها في النفس.
حين تتصفح خطابه، تجد أنه، رغم كونه قائدًا عسكريًا ومؤسس دولة، كان خطابًا شعبيًا نابضًا بالحكمة، متشبعًا بلسان العامة، ومتأصلًا في ذاكرة المجتمع. لم تكن مراسلاته جافة، بل كانت تحيا بالأمثال وتنهض بالأبيات، وتُغلف بالرؤية السياسية والاجتماعية العميقة.
لقد فهم الملك عبدالعزيز أن النفوس لا تُقنعها لغة القانون أو سطوة الأمر فحسب، بل الكلمة الصادقة التي تلامس العقل وتستقر في القلب. لذلك اختار مخاطبة الناس بما يعرفون، واستلّ من تراثهم أمثالًا شعبية دارجة، وجعلها أداة استراتيجية في أعمق مواضع القرار السياسي والاجتماعي والإداري.
أمثال الدرعية، التي تقع ضمن منطقة العارض، تعكس حكمة أهلها وتراثهم، ومع ذلك قد يُستخدم المثل نفسه في أماكن أخرى من نجد مع اختلاف السياق أو التطبيق. ومن هذا المنطلق، يظهر بوضوح أن الملك عبدالعزيز بنى نموذجًا فريدًا في الخطاب السياسي، يجمع بين الفصاحة التراثية والحصافة الإدارية، ويجعل من الموروث الشعبي جسرًا يربط بين القائد وشعبه، ويمنحه القدرة على القيادة بالحكمة والثقة، لا بالرهبة والقوة وحدها.
من بين ما تجلّى من هذه البلاغة، قوله: «أهل مكة أدرى بشعابها»(1). لم يأتِ هذا المثل من فراغ، بل ورد في وثيقة بخط اليد في عام 1342هـ، حين قال: «ولكن أحببنا أن نرجع الأمور لنظر عموم الإخوان لأجل أهل مكة أدرى بشعابها»(2). وفي مجلس آخر، نقل خير الدين الزركلي عنه قوله: «عندنا مثل يعرفه الناس جميعًا، وهو أن أهل مكة أدرى بشعابها» . هذا المثل الشعبي الضارب في الجغرافيا والمعنى، لم يكن مجرد تعبير، بل رسالة مباشرة بأن من يعيش الواقع هو أحق الناس بصناعة القرار فيه. أعطى الكلمة لأهلها، وعاد بالفكرة إلى أصلها، مؤكدًا أن المركزية لا تعني احتكار الفهم.
وفي موضع آخر، حين اشتد الكرب، ولمحت الأزمة وجهها، لم يتردد الملك في أن يقول بعبارة بسيطة عظيمة في إحدى المخاطبات (ب ت): «الفرج مع الكرب، وبحول الله وتوفيقه كل الأمور تتسهل وتكون على المطلوب»(3). تلك العبارة المضمنة مثلًا دارجًا: «ما تضيق إلا وتفرج». يذكّرنا هذا بما قاله العرب قديمًا: «تشددي تفرجي.. لكل مكروبٍ أمد»، ويجعلنا نرى كيف أن قائدًا سياسيًا يواجه تحديات الحرب والإدارة لم يتخلَ عن خطاب الأمل، ولم يغفل عن حاجة الناس لكلمة تسندهم.
ولم تكن أمثال الملك عبدالعزيز موجهة للآخرين فحسب، بل استخدمها في تشخيص الشخصيات أيضًا، كما جاء في إحدى رسائله سنة 1339هـ: «فحنا مخلينه في بريدة مريض، وقايل يبي يجي لنا، ولكن تعرف ما يخلي طبعه»(4). إنها عبارة تختصر فلسفة كاملة: أن الطبع يغلب التطبّع، وأن من عاش على عادةٍ، يصعب عليه أن يتغير عنها.
وفي لحظة ذات بُعد أخلاقي، يكتب المؤسس جملة تختصر فهمه لجوهر الإنسان في وثيقة عام1331هـ مكتوبة بخط اليد: «ولا شك وثوقنا بالله طيب، إن الله سبحانه يظهر كلا على نيته»(5). وهو بذلك يُفعّل مثلًا دارجًا وعميقًا في الثقافة المحلية: «النية مطية». وقد قالها الشاعر الأمير خالد الفيصل في بيت خالد الوقع:
«كل نفسٍ تبي تلحق جزاها
وكل نيّه لراعيها مطيّه»
إنه ترسيخ لمبدأ ديني وفلسفي في آن، أن النية تمضي بالإنسان إلى مصيره كما تمضي به راحلته.
أما في لحظات التشكيك في وعود لا تتحقق، استخدم الملك مثلًا شديد الوقع في وثيقة عام 1349هـ: «من طرف حسابكم هذا مثل بيض الصعو، يذكر ولا يشاف»(6). والمثل هنا يستعير ندرة طائر «الصعو»، الذي لا يُرى بيضه، للدلالة على الأمور التي تُقال ولا تُنفذ، أو تُذكر ولا تُصدق. وهو قول نجد له صدى في أدب العرب، كما قال الأخطل:
«من الجاريات الحور مطلبُ سرّها
كبيض الأنوق المستكنة في الوكر»
بهذا التعبير، لم يكن الملك يشكو فقط، بل يضع الأمور في نصابها: أن الوعود التي لا تُرى، لا يُبنى عليها.
وفي تقييمه لبعض الناس، كتب في وثيقة عام 1368هـ: «الله أعلم بصدق ذلك من كذبه، وإلا أنتم تعرفون حالتهم عندي، إنهم أعز من عيالنا»(7). ويظهر هنا أثر المثل القائل: «يفوتك من الكذّاب صدقٍ واجد». وهو مثل يضرب لمن عرف بالكذب، فلا يُقبل منه حتى الصدق.
ويُظهر المؤسس حزمه الأخلاقي والإداري حين كتب (ب ت): «من ورد إليه كتابي ولا تنذر، فلا يامن العتب، ومن أنذر فقد أعذر»(8). وهنا يتجلى مثل: «من أنذر فقد أعذر» وهو مثل عادل، يمنح الطرف الآخر فرصة، ثم يُحمّله مسؤولية اختياره. ورد المثل أيضاً في وثيقة أخرى عام 1359هـ مكتوبة بخط اليد من الملك عبدالعزيز جاء في نصها: «يكون الجزاء الشديد عليه ومن أنذر فقد اعذر يكون معلوم»(9).
وفي موضع آخر، تظهر رحابة صدره ورغبته في تجاوز ما مضى (ب ت): «ما فات راح منكم ومن خالد»(10). وقد قالها من بعده حفيده الأمير خالد الفيصل:
«ما فات خلّه ولا تهتم من باكر
واغنم من اليوم ما ساقت توافيقه»
لم يكن الماضي عند الملك عبدالعزيز قيدًا، بل درسًا، والمستقبل أفقًا لا سقف له.
في كل تلك المواضع، لم تكن الأمثال حشواً، بل كانت عصب الرسالة، وملخصًا للرؤية، وجسرًا بين الحاكم والمحكوم، بين الرسمي والشعبي، بين الورق والواقع. ولعل هذه الأمثال، بما تحمله من دقة وإيجاز، كانت في نظر الملك عبدالعزيز إحدى أهم أدوات الحكم، لما تحمله من مرجعية ثقافية جامعة، تحسم المواقف دون تعقيد. ولأن القيادة ليست حزمًا فقط، بل فهمٌ للنفوس، نجد الملك عبدالعزيز يتوقف عند طبيعة الناس فيقول في وثيقة (ب ت): «كلما نصحته كأني أضرب في حديد بارد، وعجزت من نصحه»(11). إنها عبارة يضرب بها مثلًا عميقًا: «ضرب في حديد بارد». أي أن الجهد يُبذل في غير محله، والكلمة تقع في أذن لا تسمع، فلا رجاء فيها. وهو بذلك لا يلوم، بل يقرر واقعًا، ويسجل تجربة.
وفي سياق التعامل مع فئة من المجتمع ذات طبيعة معقدة، كان الملك واعيًا لخصوصية المرحلة، فكتب في وثيقة عام 1346هـ: «ولكن كما قيل اكرب وجهك وأرخ يدك، أما القتل والضرب والنكال فهذا كله ما يصير إلا بعد تنفيذ أمر الشرع»(12). يختار هنا مثلًا توازنيًّا: «اكرب وجهك وأرخ يدك». دعوة إلى الحزم دون ظلم، وإلى الشدة المضبوطة لا المنفلتة. في هذا المثل، تتجلى الحكمة التي تعرف متى تبتسم ومتى تعبس.
وفي لحظة تحريض وطني، استنهض فيها أهل نجد ضد تهديد خارجي، كتب في وثيقة عام 1336 هـ يقول: «والله لو يظهر عليكم عشرة رجال أو ألف، إن نجيئكم نحن وأهل نجد بالجمل وما حمل». المثل هنا: «الجمل وما حمل»(13). أي أنهم سيجيئون بكل ما يملكون، بأنفسهم وعتادهم وأهلهم، تعبيرًا عن الاستعداد التام. وهكذا تتحول البلاغة الشعبية إلى أداة تعبئة استراتيجية.
ثم تأتي اللحظات التي تتطلب التأمل في طبيعة البشر، فيقول في وثيقة عام 1342هـ: «ولا به عود يخلو من صدف»(14). العبارة المأثورة التي تشير إلى أن لا أحد كامل، وأن العيب طبيعة في الإنسان. هذا التقدير للإنسانية بمحدوديتها يشي برؤية واقعية تُغلفها الرحمة، وتُجنّب القائد الوقوع في المثالية الزائفة.
وفي وصفٍ لحالة الازدواجية والارتباك في المواقف، كتب الملك عام 1336هـ: «ما بين حصانين معذر»(15). مثل في الدرعية قديم يضرب لمن يتردد بين خيارين ولا يلتزم بأحدهما، فيقع بين منزلتين لا يملك أيًّا منهما. وهو توصيف دقيق لبعض المواقف السياسية التي لا تحتمل الوقوف في المنتصف.
كما لم يغفل عن السلوك الأخلاقي، فكتب في وثيقة عام 1338هـ: «ولا تحسبوا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه كلام في المجالس أو التحدث في أعراض الناس، أو أن الإنسان يعيب الناس ولا يرى عيب نفسه»(16). في هذه الجملة العظيمة استدعاء لمثل يتردد كثيرًا: «يعيب الناس ولا يرى عيب نفسه». وهو تذكير مباشر بأن الأخلاق تبدأ من الداخل، لا من الإدانة العلنية.
وفي لحظة فيها كثير من الحنكة، يُرجع الملك تقييمه للزمان، لا للأشخاص، حين قال في وثيقة عام 1352هـ: «والليالي ولدتنا أولادها، وعرفنا كيف حالتهم»(17). عبارة ترتكز على مثل طويل النفس: أن الليل يلد أبناءه من الأقدار، وأن الأحداث العظيمة لا تأتي بلا مقدمات. وفي هذا المثل، كما جاء عن الإمام الشافعي:
(والليالي من الزمان حبالى
مثقلات يلدن كل عجيب)
وإذا ما دار الحديث عن الخلافات الماضية، كتب الملك (ب ت): «إن جميع ما فات مدفون، ولا لأحد حق يتكلم فيه إلا دعوى صادرة بأمر شرعي من عندنا نحن لنظر مصلحة، ولو أنها من الفايتات»(18). هنا يعود إلى مثل صريح: «ما فات مدفون». وهو ليس مجرد دعوة للنسيان، بل لتجاوز المرارة، ووضع الماضي تحت سلطة الشرع لا الشهوة. وهو أيضاً تجسيد بليغ للمثل: «حكي في الفايت نقص في العقل». وفي ذلك نظرة استراتيجية تعي أن النظر إلى الوراء بإفراط يعطّل التقدم. وقال الشاعر الأمير خالد الفيصل:
«ما أناظر اللي راح.. ما يوم وقّفت
عيني لباكر وش معه لي ابياتي»
والمثل في الأبيات هو: «لا تنظر للماضي ولا تستعجل الغد، عش الحاضر وما يحمله لك.»
ومع تصاعد المهام السياسية، كتب في توصية إدارية في وثيقة عام 1340هـ: «لا تحطونا بين السما والوطا»)(19). هذا المثل تعبير عن الحيرة، أي أن تُترك في فراغ لا تستطيع فيه القرار ولا التراجع. وهو نداء صادق بالوضوح وتحديد المواقف.
وحتى في الحديث عن النزاهة، في مراسلة تعكس وعي الملك عبدالعزيز بدقة الأمور الإدارية، ومعرفته بأثر التفاصيل، كتب الملك: «ولا يحدث بينكم من الإشكال مثقال حبة من خردل»(20). عبارة تخرج من القرآن، لكنها أيضًا تضرب كمثل دارج، يؤكد فيه أن الدقة في الحقوق والعدالة ليست ترفًا، بل واجب. ورد أيضاً المثل في وثيقة عام 1355هـ مكتوبة بخط اليد منه جاء في نصها: «ما له فيه مدخال حبة خردل كله لي ونقصه علي»(21). هنا المثل القرآني (مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) لم يأت بصياغته كاقتباس ديني فحسب، بل كمبدأ إداري صارم، لا يقبل التجاوز، ولا يُبرّر فيه الخطأ، مهما كان ضئيلًا.
وفي سياق تصفية الخلافات القديمة، قال (ب ت): «وعلى جميع الفايتات أرفعها رقاب الرجاجيل، وأصغرها الكلمة، إنه دمدوم وجرف مهدوم اليوم، على جميع ما لنا من الحقوق الفايتة»(22). في هذا السياق، استدعى المثل: «دمدوم وجرف مهدوم». وهو تصوير رمزي رائع: أي أن كل ما سبق قد انهدم، ولا سبيل لإعادة بنائه أو بعثه من جديد. هي طريقة محكمة لإعلان العفو، وطي صفحة الخلاف بثبات إداري وكرم شخصي.
وفي تقييمه لفئة من الناس، كتب (ب ت): «هذا الصنف من الناس.. لا دين ولا مذهب، وكل ما يفعلونه من هذه الأمور الفاسدة لا يُستغرب منهم»(23). هنا يستدعي مثلًا حادًا: «لا دين ولا مذهب». وهو توصيف للمتجرد من القيم، الذي لا يُرجى منه خير. وهي عبارة شديدة اللهجة، لكنها مغطاة بمثل دارج: «لا دين ولا مذهب». وهنا يظهر عمق غضب الملك، حين يُمس جوهر الأخلاق أو تُخدش كرامة المجتمع، فيتجاوز النصح إلى التصنيف الصريح.
وفي مراسلة متهكمة، وصف حالة التعلق بالأوهام قائلاً في وثيقة عام 1352هـ: «ويحطهم مركوبه له، واحد مهبول إذا بغى يركب وعد، وجمع مركوبه من خاقان وباقان، وركب بها...»(24). وفيها استدعاء ساخر لمثل: «من خاقان وباقان». أي من مصادر مجهولة، بلا أصل ولا أساس. والمثل «خاقان وباقان» مثل يُضرب لمن لا يُعرف مصدره، ولا يُرجى منه أساس. استخدمه الملك هنا بازدراء مبطن، لوصف حالات التدليس أو التزوير التي تنشأ من دون أصل.
وفي لحظة عتاب مرهقة، في وثيقة عام 1334هـ مكتوبة بخط اليد إلى الملك عبدالعزيز جاء فيها: «وسويتوا بي سواة بن غنام وعبده.. ويوم شاف أن الأمر بيطاوله، رمى نفسه في القليب، وقال: جال الركية ولا جال ابن غنام»(25). إنها استعارة كاملة من مثل شعبي تراجيدي يعبر عن اليأس من تحقق الوعد وتفضيل مواجهة المشقة على انتظار ما لا يُرجى. وقد استشهد به كاتب وثيقة موجهة إلى الملك عبدالعزيز ليُشبّه حاله بكثرة التكاليف التي تنهال عليه بلا نهاية. هذا يبرز حضور الأمثال الشعبية في الخطاب الرسمي كأداة للتوضيح والتأثير. كما يعكس فطنة الكاتب في مخاطبة الملك بلغة مألوفة وموصلة للمعنى بعمق.
ولأن الدولة لا تُبنى إلا على التنظيم الدقيق، كان الملك عبدالعزيز يرى في تجاوز الإجراءات مساسًا بجوهر العدالة. ففي وثيقة مؤرخة عام 1368هـ، جاء قوله: «جانا سعد، وعاهدنا بالله أن يعمل إن شاء الله بما يرضي الله، وأن ما ينفذ خيط بإبرة إلا بآمر الشرع، لا غير ذلك»(26). وهو استدعاء صريح للمثل القائل: «ما ينضم خيط بإبرة»، أي لا يُصار إلى أدنى تصرف إلا بإذن واضح. وهنا تتجلى دقة الملك في إلزام المسؤولين بمسار الشرعية وعدم التهاون في الإجراءات، حتى وإن كانت في ظاهرها بسيطة.
ويبدو الملك عبدالعزيز في أحاديثه الشعبية، كما في مواقفه السياسية، واضح النظرة تجاه القيم قبل الكفاءة. فقد قال في إحدى الوقائع: «أميّ أمين خير من كاتب سروق»(27). كان ذلك حين اختار رجلًا أمّيًا لإنجاز مهمة دقيقة تتعلق بشراء الإبل، فأنجزها بصدق وأمانة. اختزل الملك المعادلة في مثل واحد، فيه كل التقدير للنزاهة، وفيه استخفاف بأي شهادة لا يرافقها ضمير.
أما حين واجه مخالفة أو عصيانًا من قبيلة أو جماعة، لم يكن يتهاون، لكنه أيضًا لم يتهور. يقول الشيخ جمل بن شري القحطاني: «كان الملك عبدالعزيز إذا بلغه خبر عن تمرد أو تجاوز يقول: «أنا احتزم للثعلب بحزام الأسد»(28). وقال محمد بن عبدالعزيز بن دغيثر في حديث عن ذكريات الملك عبدالعزيز قال : كان - رحمه الله - دايم يردد المثل القائل «استعد للحصيني مثل ما تستعد للأسد»(29). وهذا المثل يُستخدم للحذر الشديد من خصم يُستهان به، فيتعامل معه كما لو كان من أشد الأعداء. رؤية أمنية احترازية، تنبع من حنكة لا تغفل حتى أضعف الاحتمالات.
وفي التعامل مع من يتجاوز الأدب أو يستخف بالمواقف، كتب عام 1350هـ بوضوح: «أما اللي يستحي، فلا هوب جاي إلا بها الموعد، والذي ما يستحي، ما حنا مستحين منه»(30). هذا هو المثل المعروف: «اللي ما يستحي منك لا تستحي منه». هنا يقرر الملك مبدأ في المعاملة بالمثل، لكنه يلبسه ثوب الوقار، دون تجرد من الأخلاق، بل بعين تردّ السيئة بمثلها بحكمة.
وفي مشهد يُظهر دهاءه السياسي، طلب إليه أحدهم أن يوليه على قرية «المشاش»، فأجابه بمثل مباشر: «عينك على المشاش ولا منّاش»(31). أراد به أن يخبره أن الإمارة ليست وجاهة تُطلب للمظاهر، بل مسؤولية تتطلب دعمًا واستحقاقًا.
وفي حديثه عن ماضي الناس وسيرتهم، قال في أحد اللقاءات (ب ت): «تاريخ ذلك منقوش في صدر كل واحد منكم، وأنتم تعلمونه جميعًا، وكما قيل: السيرة تبين السريرة»(32). وهذا المثل من أرقى أدوات التقييم الاجتماعي: أن الظاهر يعكس الباطن، وأن سلوك الإنسان يكشف عن معدنه.
وفي قول الملك عبدالعزيز في وثيقة مكتوبة 1327هـ: «حنا لو نلحا لهم لحم ذرعاننا»(33). هو استعار المثل أي نقطع من لحمنا ونبذل من أجسادنا كرامةً لهم. وهو تعبير عن غاية التضحية والفداء، أي أن الكرامة والوفاء للأهل أو للأصدقاء تستحق أن يُبذل في سبيلها أغلى ما يملكه الإنسان، حتى جسده نفسه.
والمثل «الخير مقبل» يعبر عن التفاؤل بمستقبل أفضل، وقد استخدمه الملك عبدالعزيز في وثيقته عام 1344هـ: «الخير في الإقبال إن شاء الله»(34). ليبث الأمل ويؤكد أن القادم يحمل الخير - بإذن الله -، جامعًا بذلك بين الحكمة الشعبية وروح القيادة التي تبعث الطمأنينة في النفوس. والشاعر الأمير خالد الفيصل عبّر عن الأمل القادم بقوله:
(الله يبدل حالتي في المقبلات
ما يقطع لنفس المشقى رجاها)
استخدم الملك عبدالعزيز المثل «ما كل من ركب الفرس خيال» في حداويه ليبين أن الفروسية الحقيقية تُقاس بالمواقف الصعبة لا بالمظاهر، فقال في أبياته: «ما كل من ركب خيال إن نهضن دهم الشليل»(35). ليؤكد أن الخيال الحق هو من يثبت عند الشدائد، لا من يكتفي بركوب الفرس في أوقات السعة. والقصد من المثل عند الملك عبدالعزيز لم يكن الفروسية بحد ذاتها، بل الرجولة في المواقف الصعبة، فليس كل من بدا عليه مظهر القوة يُعد رجل ميدان عند الشدائد. ليؤكد أن معدن الرجال لا يظهر إلا في لحظات الأزمات، حيث يثبت الصادق وينكشف المدّعي.
ومن الأمثال «من له حيلة فليحتال»، الذي يدل على ضرورة استخدام العقل والحيلة للخروج من المواقف الصعبة بدل القوة. والملك عبدالعزيز استخدم هذا المثل ليعكس حكمته وفطنته في إدارة الناس والمواقف. في قوله في إحدى الحداوي: «نمشي لصاحبنا قدا، واللي يحايلنا نحايله»(36). يظهر اعتماده على الذكاء والتكتيك.
قالوا في الأمثال «الشر عقبه خير» يعني أن المصائب قد تسبق أمورًا أفضل. والملك عبدالعزيز استخدمه في حداويه للتأكيد على التفاؤل والصبر، كما في قوله: «يا اللي تريدون المدايح، ما خير إلا عقب شرا»(37). وهذه كانت وسيلته لنقل الحكمة بأسلوب شعبي وربطها بالمواقف الواقعية.
الملك عبدالعزيز كان يتميز بالحكمة والحنكة في التعامل مع الناس والمواقف، وكان يوجه نصائحه لتعزيز اليقظة والحذر. ففي حديثه مع أمين الريحاني قال: «وكان بلانا من أقرب الناس لنا»(38)، مما يعكس إدراكه لأهمية الحذر حتى مع المقرّبين مستعينا بالمثل «بلاك من أقرب الناس لك»، يحذر من الغدر أو الضرر القادم من الأشخاص المقربين، مشددًا على توخي الحذر حتى بين الأقرباء.
وكان الملك عبدالعزيز يحرص على الدقة والوضوح في توجيه الأوامر والتعليمات، مع إظهار الحزم والحكمة في التعامل مع المواقف. مثال على استخدامه في وثيقة مكتوبة بخط اليد عام 1347هـ، جاء فيها: «وقلنا لهم هذا هو المطلوب وكتبنا لخالد من طرفهم...»(39)، مما يعكس تأكيده على وضوح الهدف وتنفيذه بدقة.
خاتمة: الكلمة.. بناءٌ للدولة وجسرٌ إلى الشعب
يبرز الملك عبدالعزيز في التاريخ ليس فقط كموحد ومؤسس، بل كقائد امتلك لغة استثنائية، جعل من الكلمة الشعبية أداة للحكم ووسيلة للتواصل. فقد نسج بخطابه توازنًا نادرًا بين الدولة والمجتمع، وبين الحكمة السياسية والبصيرة الفطرية، وبين المرسوم الرسمي والمثل الشعبي.
لم يكن المثل في حديثه مجرد زينة بلاغية، بل كثيرًا ما كان يعادل القرار ذاته والسياسة بعينها. نطق به في مجلس المشورة أو خطّه في رسالة رسمية، في لحظة عزم أو ساعة أزمة، ليمنح الكلمة وزن الفعل، ويجعل الموروث الشعبي قوة تشرح وتفسر وتؤطر مسار الدولة.
لقد كتب الملك عبدالعزيز فصلًا فريدًا في أدب القيادة، حيث تحولت الأمثال إلى جسر يربط بين القائد وأبناء شعبه. وهنا تكمن الدلالة الأعمق: حين تصدر اللغة من قلب البيئة وتلامس وجدان الناس، فإنها تغني عن الزخارف، وتمنح القائد قدرة على القيادة بالثقة لا بالرهبة، وبالحكمة لا بالصوت المرتفع.
أسلوبه هذا أسس نموذجًا فريدًا في الخطاب السياسي العربي، إذ التقت الفصاحة التراثية مع الحصافة الإدارية، والتقاليد الشفهية مع الكتابات الرسمية. وقد جاءت الأمثال، لا للتزيين، بل تعبير عن منظومة قيمية ومجتمعية أصيلة، اختصر بها مواقف معقدة، وأرسل رسائل قوية بلغة يعرفها الجميع.
إن قراءة الموروث الخطابي للملك عبدالعزيز من زاوية الأمثال الشعبية تكشف جانبًا غنيًا من فكره، وتعيد لنا صورة الحاكم المتجذر في تراث قومه، الذي قاد وطنًا بحكمة الأجداد وعين على المستقبل.
الهوامش:
1 - ص 435 - لسراة الليل هتف الصباح - عبدالعزيز التويجري - ط 4/ 2008.
2 - ص 570 - شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز - خير الله الزركلي - ج 2 ط 5/ 1992.
3 - ص439 - من وثائق الملك عبدالعزيز - عبد الرحمن بن سبيت السبيت وآخرون - 1990.
4 - ص 403 - لسراة الليل هتف الصباح - عبدالعزيز التويجري - ط 4/ 2008.
5 - ص 34 - عند الصباح حمد القوم السرى - عبد العزيز بن عبدالمحسن التويجري - 2004 .
6 - ص247 - من وثائق الملك عبدالعزيز - عبد الرحمن بن سبيت السبيت وآخرون - 1990.
7 - ص281 - من وثائقنا الوطنية - عبد الرحمن بن سبيت السبيت وآخرون - 1992.
8 - ص 245 - عند الصباح حمد القوم السرى - عبد العزيز بن عبدالمحسن التويجري - 2004 .
9 - ص 225 - من وثائقنا الوطنية - عبدالرحمن بن سبيت السبيت وآخرون - 1992
10 - ص 173 - لسراة الليل هتف الصباح - عبدالعزيز التويجري - ط 4/ 2008
11 - ص 498 - المرجع السابق.
12 ص 427 - المرجع السابق.
13 - ص 157 - المرجع السابق.
14 - ص 436 - المرجع السابق.
15 - ص 445 - المرجع السابق.
16 - ص 453 - المرجع السابق.
17 - ص 467 - المرجع السابق.
18 - ص 503 - المرجع السابق.
19 - ص 507 - المرجع السابق.
20 - ص 531 - المرجع السابق.
21 - ص313 - من وثائق الملك عبدالعزيز - عبد الرحمن بن سبيت السبيت وآخرون – 1990.
22 - ص 660 - لسراة الليل هتف الصباح - عبدالعزيز التويجري - ط 4/ 2008.
23 - ص688 - المرجع السابق.
24 - ص 756 - المرجع السابق.
25 - ص93 - من وثائقنا الوطنية - عبدالرحمن بن سبيت السبيت وآخرون – 1992.
26 - ص 281 - المرجع السابق.
27 - ص55 - من أدابنا الشعبية في الجزيرة العربية قصص وأشعار - منديل بن محمد آل فهيد - ج 1/ 1413 - ط2.
28 - ص47 - كنت مع عبدالعزيز - عبدالرحمن بن سبيت السبيت وآخرون - 1994م ط2.
29 - ص396 - المرجع السابق.
30 - ص 456 - لسراة الليل هتف الصباح - عبدالعزيز التويجري - ط 4/ 2008.
31 - ص461 - الأمثال الشعبية في قلب الجزيرة العربية - عبدالكريم الجهيمان - ج 4/ 1403/ ط3.
32 - ص481 - شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز - خير الله الزركلي - ج 2 ط5/ 1992.
33 - ص21 - من وثائق الملك عبدالعزيز - عبد الرحمن بن سبيت السبيت وآخرون - 1990.
34 - ص145 - المرجع السابق.
35 - ص 226 - الحداوي - محمد الأحمد السديري - ج 1 - 2009 - ط1.
36 - ص 225 - المرجع السابق.
37 - ص 223 - المرجع السابق.
38 - ص 746 - شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز - خيرالله الزركلي - ط3/ 1985.
39 - ص 173 - لسراة الليل هتف الصباح - عبدالعزيز التويجري - ط4/ 2008.