ذكرى توحيد المملكة العربية السعودية محطة بارزة في التاريخ السعودي، فهو منعطف تاريخي أسس لقيام دولة حديثة ارتكزت على ثوابت الدين ومبادئ الوحدة والأمن والاستقرار. لقد جسد هذا التوحيد رؤية بعيدة المدى قادها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - الذي نجح في تحويل شبه الجزيرة العربية من ساحة للصراعات القبلية والتفكك السياسي إلى كيان موحد يتمتع بالشرعية الدينية والمكانة السياسية والدولية، ومنذ إعلان التوحيد في 23 من سبتمبر عام 1932م، باتت المملكة تمثل نموذجًا للدولة الراسخة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويحتفل أبناؤها اليوم بمرور خمسة وتسعين عامًا على ذلك الإنجاز التاريخي، مستحضرين مسيرة طويلة من العطاء والإنجاز.
قبل التوحيد عاشت الجزيرة العربية أوضاعًا متقلبة، حيث ساد الانقسام وانتشرت النزاعات القبلية وضعف الأمن وانعدمت السلطة المركزية. ومع أن محاولات توحيد المنطقة ظهرت في إطار الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، إلا أن تلك التجارب انتهت بفعل الضغوط الداخلية والخارجية. ومع نهاية الدولة السعودية الثانية عام 1891م، ظلت فكرة العودة إلى الحكم الموحد حية في وجدان الملك عبدالعزيز آل سعود، إلى أن تمكن عام 1902م من استعادة الرياض، وهو الحدث الذي شكّل نقطة الانطلاق الحقيقية لمشروع التوحيد الكبير.
بدأ الملك عبدالعزيز بعد استعادة الرياض مرحلة طويلة من الكفاح السياسي والعسكري، اتسمت بالتدرج والتخطيط الاستراتيجي. فقد عمل على تثبيت أركان حكمه في نجد، ثم توجه إلى الأحساء فضمها عام 1913م، وهو ما أتاح له السيطرة على موقع جغرافي مهم فتح له منفذًا على الخليج العربي، وعزز قدرات الدولة. ومع مرور السنوات استمر مشروع التوحيد حتى وصل إلى الحجاز، حيث دخلت مكة المكرمة والمدينة المنورة تحت راية الحكم السعودي، مما منح الكيان الوليد بعدًا دينيًا وروحيًا جعل له مكانة خاصة في العالم الإسلامي. وفي عام 1932م أعلن الملك عبدالعزيز توحيد البلاد تحت اسم «المملكة العربية السعودية»، ليكون ذلك تتويجًا لمسيرة استمرت ثلاثين عامًا من النضال والتضحيات.
إن نجاح الملك عبدالعزيز في تحقيق الوحدة مزيج من الأسس الفكرية والسياسية والشرعية الدينية، والعسكرية. فقد حرص على أن تكون الدولة الجديدة قائمة على الإسلام عقيدةً وشريعة، وأن ترتبط شرعيتها بخدمة الحرمين الشريفين ونشر قيم الوسطية والاعتدال. كما جعل الأمن والاستقرار أولوية قصوى، إدراكًا منه أن التنمية لا يمكن أن تتحقق في بيئة يسودها الخوف والاضطراب. كذلك عزز مفهوم الهوية الوطنية الجامعة، متجاوزًا الانقسامات القبلية والمناطقية، ونجح في دمج سكان المناطق المختلفة في إطار دولة واحدة. وعلى الصعيد الخارجي، انتهج سياسة متوازنة تقوم على بناء علاقات مستقرة مع القوى الإقليمية والدولية، مما ساعد على ترسيخ استقلال المملكة الناشئة وحماية سيادتها.
على مدى خمسة وتسعين عامًا حققت المملكة إنجازات على مختلف الأصعدة، ففي المجال السياسي والدبلوماسي أصبحت لاعبًا مؤثرًا على الساحة الدولية، فهي عضو مؤسس في هيئة الأمم المتحدة منذ عام 1945م، وأسست منظمة التعاون الإسلامي عام 1969م، كما شاركت بفاعلية في إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1981م. وأدت أدوار محورية في حل النزاعات العربية والإسلامية، والمساهمة في استقرار أسواق الطاقة العالمية، وتقديم الدعم الإنساني والإغاثي للدول المحتاجة. وفي الجانب الاقتصادي، فقد مثّل اكتشاف النفط بكميات تجارية نقطة تحول في مسيرة التنمية في البلاد، إذ تحولت إلى أحد أكبر المنتجين والمصدرين للطاقة في العالم. وشكلت شركة أرامكو السعودية نموذجًا للريادة في صناعة النفط والغاز ومشتقاته، لتصبح أكبر شركة طاقة في العالم من حيث القيمة والإنتاج. ومع أن النفط كان ركيزة أساسية للاقتصاد لعقود طويلة، إلا أن القيادة السعودية أدركت أهمية تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاقتصاد الإبداعي والمعرفي، فأطلقت رؤية المملكة 2030 بوصفها خطة استراتيجية تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة وتنويع الاقتصاد وتطوير قطاعات جديدة مثل السياحة والثقافة والتقنية.
وفي المجال الاجتماعي، أولت الدولة اهتماماً كبيراً بعناصر جودة الحياة التعليم والصحة، فانتشرت المدارس والجامعات في مختلف أنحاء المملكة، وأصبحت الجامعات السعودية بتنوع برامجها وجودة بحوثها في مصاف الجامعات العالمية، كما توسعت الخدمات الصحية لتغطي المدن والقرى، وارتفعت مؤشرات التنمية البشرية بشكل ملحوظ مع انطلاق برامج الرؤية، وعلى هذا أيضًا برزت برامج تمكين المرأة في سوق العمل، بما يحقق التوازن بين الأصالة والقيم الوطنية من جهة، ومتطلبات التنمية الحديثة من جهة أخرى. وأصبحت المرأة اليوم شريكًا فاعلًا في التنمية الوطنية، تشغل مناصب قيادية، وتشارك في كل المجالات.
ولم تغفل المملكة جانبها الثقافي والحضاري، فقد اعتنت بتراثها العمراني والمادي وغير المادي، وسعت إلى تسجيل مواقعها التاريخية في قائمة التراث العالمي لليونسكو، مثل حي الطريف في الدرعية. كما أنشأت وزارة الثقافة وهيئة التراث والعديد من الهيئات المتخصصة، وأطلقت برامج ومبادرات لإحياء الفنون الشعبية وتشجيع الإنتاج الأدبي والفني والإبداعي، هذه الجهود جزءًا من رؤية شاملة لتعزيز الهوية الوطنية وربط الأجيال الجديدة بتاريخها العريق.
إن رؤية المملكة 2030 تمثل امتدادًا طبيعيًا لمسيرة التوحيد، فهي تسعى إلى بناء اقتصاد قوي بتحويل المملكة إلى قوة استثمارية عالمية، ومركز لوجستي يربط القارات الثلاث. وهي أيضًا رؤية حضارية تسعى إلى تعزيز جودة الحياة وتمكين الشباب وتوسيع آفاق المرأة، مع الحفاظ على الهوية الإسلامية والوطنية. وبهذا يمكن القول إن الرؤية تعكس روح التأسيس بحلة حديثه، حيث تستلهم من الماضي لبناء المستقبل.
إن استحضار هذه الذكرى يعزز شعور الانتماء والفخر الوطني لدى الأجيال، ويؤكد أن المحافظة على مكتسبات الوطن مسؤولية مشتركة، وأن الاستمرار في مسيرة التنمية واجب وطني ينسجم مع رؤية 2030. وهكذا فإن قصة التوحيد التي بدأت بجهود مؤسسها الملك عبدالعزيز، لا تزال مستمرة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - لتؤكد أن المملكة ماضية في طريقها نحو المستقبل بثقة وثبات.
** **
- ابتسام بنت حسن الزهراني