لم تتزعزع أو تلين عزيمة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه- لتحقيق كيان موحد وقوي تحت راية واحدة طوال مسيرة التوحيد والجهاد والتي بدأها باستعادة الرياض عام 1319هـ، التي كانت قاعدة الحكم السعودي منذ الدولة السعودية الثانية.
وباستعادة الرياض، وضع الملك عبدالعزيز اللبنة الأولى في بناء الدولة، وخطا أول خطوة على طريق الوحدة الوطنية، ومرحلة التوحيد وإقامة الدولة.
وتعد المرحلة التي تأتي بعد استعادة الرياض مرحلة مهمة في حياة المؤسس، حيث قضى عدة سنوات في معارك وحروب على عدة جبهات، واجهته خلالها الكثير من المصاعب، ولكنه استطاع أن يتغلب عليها بحكمته وشجاعته وقيادته الفذة لتحقيق هدفه السامي بتوحيد أرجاء الوطن.
اليوم الوطني
وفي 17 جمادى الأولى 1351هـ صدر مرسوم ملكي بتوحيد كل أجزاء الدولة السعودية الحديثة في اسم واحد هو «المملكة العربية السعودية» وأن يصبح لقب الملك عبد العزيز «ملك المملكة العربية السـعودية»، واختار جلالته في الأمر الملكي يوم الخميس 21 جمادى الأولى 1351هـ يوماً لإعلان توحيد المملكة العربية السعودية وهو اليوم الوطني للمملكة.
واختارت الدولة السعودية في عهد الملك عبدالعزيز شعار الدولة الحالي «سيفان متقاطعان بينهما نخلة» أما العلم فأصبح لونه أخضر مستطيل الشكل تتوسطه شهادة التوحيد «لا إله إلا الله محمد رسول الله» باللون الأبيض وتحتها سيف باللون الأبيض.
ملحمة التأسيس
خاض المؤسس -رحمه الله- على مدى ثلاثة عقود العديد من معارك التأسيس والتي كان أهمها:
- معركة فتح الرياض 1319هـ
- معركة الدلم 1320هـ
- معركة البكيرية 1322هـ
- معركة الشنانة 1322هـ
- معركة روضة مهنا 1324هـ
- معركة الطرفية 1325هـ
- معركة الأحساء 1331هـ
- معركة جراب 1333هـ
- معركة كنزان 1333هـ
- معركة تربة 1337هـ
- معركة حجلا 1338هـ
- معركة حرملة 1339هـ
- معركة السبلة 1347هـ
- معركة أم رضمة 1348هـ
- معركة جازان 1351هـ
فتح الرياض - المحاولة الأولى
عام 1318هـ/ 1901م
جاءت المحاولة الأولى لاستعادة عاصمة الدولة (الرياض) في عام 1318هـ (1901م) عندما تحرك الشيخ مبارك الصباح على رأس جيش كبير ومعه عبدالرحمن بن فيصل لمحاربة ابن رشيد، وعندما وصل الجيش إلى (الشوكي) في الدهناء استغل الملك عبدالعزيز هذه الفرصة واستطاع إقناع والده ومبارك الصباح بأن يذهب على رأس سرية من رجاله لفتح الرياض، وبذلك يضطّر ابن رشيد إلى أن يقاتل بجيشه على جبهتين مختلفتين مما يضعف صفوفه ويزيد من فرص الانتصار عليه، فأذنا له بالسير إلى هناك فقطع المسافة ما بين الشوكي والرياض في يومين.
علمت حامية ابن رشيد بالأمر وخرجت للتصدي له بقيادة عامل ابن رشيد على الرياض (عبدالرحمن بن ضبعان) فقاتلها عبدالعزيز وهزمها ودخل المدينة، ثم لجأت الحامية إلى داخل القصر (المصمك) وتحصّنت فيه فحاصرها الملك عبدالعزيز وباشر في حفر نفق إلى داخل القصر وفي الجهة الأخرى دارت الحرب الطاحنة بين ابن رشيد والشيخ مبارك في مكان يسمى الصريف في القصيم على مقربة من الطرفية في 17 ذي الحجة سنة 1318هـ الموافق 7 أيار (مارس) 1901م، كان النصر فيها من نصيب ابن رشيد وقواته فعاد مبارك الصباح إلى الكويت ومعه عبدالرحمن بن فيصل الذي أرسل إلى ولده الملك عبدالعزيز يحذره ويطلب منه ترك محاصرة الرياض والعودة بمن معه إلى الكويت خوفا عليهم من قوات ابن رشيد بعد نشوة هذا الانتصار. استجاب الابن لطلب والده وكان رأيا صائبا من الاثنين فالرأي والحكمة قبل الشجاعة ولكن الملك عبدالعزيز لم تطل إقامته في الكويت هذه المرة بعد أن ذاق حلاوة النصر وكاد أن يصل إلى هدفه في محاولته الأولى.
ملحمة خالدة - المحاولة الثانية
عام 1319هـ/ 1902م
حاول الملك عبدالعزيز استئذان والده لتكرار المحاولة، وتحت الإلحاح القوي والإصرار الشديد وافق الإمام عبدالرحمن بن فيصل، وخرج عبدالعزيز من الكويت في أربعين رجلاً من آل سعود وأنصارهم وفي الطريق انضم إليه العديد من الرجال ليصبح عدد رجاله يربو على الستين رجلا، فأكمل مسيرته حتى وصل إلى (يبرين) بسرية تامة، وهناك تفقّد رجاله الثلاثة والستين استعدادا للزحف على الرياض واستردادها.
وفي هذه الأثناء وصلت رسالة من الإمام عبدالرحمن بن فيصل، قرأها الملك عبدالعزيز ثم جمع رجاله حوله لاستشارتهم حيث قرأ عليهم الرسالة وقال: «لا أزيدكم علما بما نحن فيه وهذا كتاب والدي يدعونا للعودة إلى الكويت قرأته عليكم، أنتم أحرار فيما تتخذونه لأنفسكم، فمن أراد الراحة ولقاء أهله فإلى يساري. «فتواثب الجميع إلى يمينه معلنين قرارهم التاريخي بأن يصحبوه حتى يتحقق الحلم الغالي بإذن الله عندها التفت جلالته إلى مبعوث والده وقال له: «سلم على الإمام وخبره بما رأيت واسأله الدعاء لنا، وقل له إن موعدنا إن شاء الله في الرياض».
وقد اضطر الملك عبدالعزيز إلى اتباع سياسة التخفي نظرا للمخاطر التي كانت تحيط بهم، فأقام مع رجاله في الربع الخالي حتى تنصرف الأنظار عنهم. يقول الملك عبدالعزيز: «أخذنا أرزاقنا وسرنا وسط الربع الخالي ولم يدر أحد عنا أين كنا، فجلسنا شعبان بطوله إلى عشرين رمضان ثم سرنا إلى العارض». وكان يسبقهم الفارسان عبدالله بن حسين الجريس وسطام أبالخيل لكشف الطريق وتهيئته لهم.
ثم بدأ الملك عبدالعزيز في تنفيذ خطته حيث تحرك برجاله في الواحد والعشرين من شهر رمضان سنة 1319هـ ووجهته الرياض فوصل إلى مورد (أبو جفان) يوم عيد الفطر، وفي 4 شوال الموافق الثالث عشر من كانون الثاني (يناير) سنة 1902م وصل إلى (ضلع الشقيب) الذي يبعد عن الرياض ساعة ونصف بالأقدام، فترك عند الإبل والأمتعة عشرين رجلا لحراستها وليكونوا مددا وعونا عند الحاجة، وتقدم بالأربعين الآخرين، فدخل بساتين نخل في شرقي الرياض، وفي بستان قرب بوابة الظهيرة خارج سور الرياض استبقى الملك عبدالعزيز ثلاثة وثلاثين رجلا من رفاقه وجعل قيادتهم لأخيه محمد بن عبدالرحمن كقوة مساندة عند الحاجة.
وتقدم بالسبعة الباقين لمهاجمة منزل عامل ابن رشيد ابن عجلان ففوجئ بأنه يبيت في (المصمك) ولا يخرج منه إلا في الصباح لتفقد الخيل، عندها أرسل الملك عبدالعزيز في طلب أخيه محمد بن عبدالرحمن ليأتي بمن معه للتشاور فيما يمكن عمله، فدخلوا البيت متسللين وتشاوروا في تنفيذ الخطة، فأكل الملك عبدالعزيز ورجاله شيئا من التمر كان هناك ثم ناموا قليلا، وعند انبثاق الفجر نهضوا فصلى بهم جلالته وأخذ يتحدث إليهم حتى بزوغ شمس يوم الجمعة الخامس من شهر شوال سنة 1319هـ الموافق 15 كانون الثاني (يناير) 1902م.
ثم تقدم برجاله واقتربوا من الساحة التي يتفقد فيها ابن عجلان الخيل منتظرين خروجه، وبعد فترة بسيطة خرج عجلان من البوابة ومعه بعض رجاله فوقعت عيناه على الملك عبدالعزيز فعرفه بهيئته وطول قامته التي اشتهر بها، فحاول ومن معه الهرب منقلبين على أعقابهم، فأطلق عليه الملك عبدالعزيز بندقيته فأصابه في غير مقتل، ثم لحق به وأدركه قبل دخوله من الخوخة (الباب الصغير في البوابة الكبيرة) فأمسك برجليه وتعلق ابن عجلان بيديه من الداخل، وفي هذه الأثناء رماه فهد بن جلوي بالحربة (الشلفا) فأخطأته واستقرت في الباب، عندها تمكن ابن عجلان من الانفلات والدخول إلى القصر، فلحق به عبدالله بن جلوي إلى الداخل ولحق به العشرة الآخرون واستطاع قتل عجلان، ثم هجم بقية الرجال على من في القصر من الحامية فقتلوا أكثر من ثلاثين رجلا وتحصّن نحو العشرين في إحدى الجهات، فأمّنهم عبدالعزيز على أرواحهم واستسلموا، فنادى المنادي : (الملك لله ثم لعبدالعزيز بن عبدالرحمن بن سعود) وخرج أهالي الرياض لتحية أميرهم العائد بعد غياب مهللين مكبرين يحمدون الله ويشكرونه بقلوب يغمرها الفرح والسرور بهذا الفتح العظيم وهذا النصر الكبير على يد الملك عبدالعزيز.
شهادات للتاريخ
وهنا نعرض لشهادات عربية وإسلامية وأجنبية لمعاصري الملك عبدالعزيز، ممن قابلوه أو عايشوا تجربته أو قرأوا عنه من ساسة ومفكرين وصحافيين ومؤرِّخين، وهي في مجملها تبلور معالم شخصية الملك عبدالعزيز الإنسان، الملك، السياسي، العسكري، المؤمن الصادق، والعربي الغيور. ولهذه الشهادات عرض لها المؤرِّخ خير الدين الزركلي في مبحث موجز من كتابه (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز) تحت عنوان (الملك عبدالعزيز في كلمات للسياسيين وكبار الكتّاب الأجانب). وجاءت كالتالي:
* (عبدالعزيز ابن سعود، أجدر ملوك المسلمين بالخلافة)
الإمبراطور الألماني غليوم
* (بين جميع الأشخاص الذين تقابلت معهم في حياتي، ما وجدت واحداً حصلت منه أقل مما حصلت عليه من هذا الملك العربي ذي الإرادة الحديدية).
الرئيس الأمريكي روزفلت
* (كنت شديد الرغبة في أن اجتمع بالملك عبدالعزيز وقد تشرفت بدعوته إياي لتناول الغداء على مائدة جلالته في فندق الأوبرج بالفيوم، ذلك الرجل الذي لمع أكثر ما لمع في أحلك الأيام وأشد ساعات الأخطار الساحقة).
رئيس الوزراء البريطاني تشرشل
* كما وصف المؤرخ صلاح الدين المختار هذا الجهاد الطويل بقوله: «لقد قضى عبدالعزيز بن عبدالرحمن بعد هذا الجهاد الرائع الجبار، فكان رحمه الله، عظيماً في كل شيء، والأهم أن عظمته لم تكن بفضل إرث ورثه عن آبائه وأجداده، على ما يضم تاريخهم بين صفحات المجد من أمجاد خالدات، ولكنه تمكن بشخصيته الفذة من تأسيس مملكته وتوحيد دياره وتجديد تعاليم الدين الحنيف، وتوطيد الأمن، ورفع معنويات دنيا العرب بأسرها، وذلك بعون الله وبما وهبه من مدارك سامية وتحمل للمشاق والصعاب وقوة في العقل والجسد لا تبارى ولا تجارى».
* وبهرت شخصية الملك عبدالعزيز الكثير من المفكرين والمؤرخين في العالم، ومنهم المؤرخ الصيني البروفيسور يانغ يان هونغ الذي قال عنه: «لقد كان الملك عبدالعزيز أحد العباقرة الذين قدموا لأممهم وأوطانهم خدمات جليلة بجهودهم الجبارة التي لا تعرف الكلل أو الملل، وأثروا في تطور المجتمعات البشرية وتقدمها نحو الغاية المنشودة، وسجلوا مآثر عظيمة في السجل التاريخي المفعم بالأمجاد الخالدة».
* ووصف الدكتور فون دايزل النمساوي الذي زار المملكة عام 1926م الملك عبدالعزيز بالنابغة، مستشهداً بالقول: إذا عرفتم أن ابن سعود نجح في تأليف إمبراطورية تفوق مساحتها مجموع مساحات ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، معاً بعد أن كان زعيماً لا يقود في بادئ الأمر سوى عدد من الرجال تمكن بمساعدتهم من استرداد الرياض عاصمة أجداده، لم يداخلكم الشك في أن هذا الرجل الذي يعمل هذا يحق له أن يسمى «نابغة».
وحدة وبناء
وعرف عن الملك عبدالعزيز احترامه الكبير للعلماء طيلة فترة حياته فكان يقدمهم في مجلسه، ويستمع إليهم، ومبعث ذلك إيمان الملك عبدالعزيز التام بقيمة العلم والعلماء وأثرهم في الحياة.
وعدّ المؤرخون خروج الملك عبدالعزيز، مع والده الإمام عبدالرحمن وبعض أفراد أسرته من الرياض عام 1308هـ الموافق 1891م، الحدث الأصعب في حياته، إذ غادرها وهو في سن الـ15 عاماً، وكانت محطتهم الأولى بعد الرياض واحة «يبرين» في الأحساء، فالبحرين إلى أن وصلوا فيما بعد إلى الكويت واستقروا بها عدة سنوات ظل فيها الملك عبدالعزيز معلق القلب بالرياض التي ولد وترعرع فيها، وكبرت فيها تطلعاته وآماله إلى أن استعادها عام 1319هـ.
وأعلن بداية العهد الزاهر في نجد، بعد أن بايعه أهالي الرياض وأعيانها أميراً على نجد وإماماً لأهلها، وذلك عقب صلاة الجمعة في ساحة المسجد الكبير بالرياض، فدبّ الاستقرار السياسي في مدينة الرياض بعد سنين من الاضطراب، وكانت وحدة الحكم من أهم العوامل التي مهدت دخول الرياض مرحلة جديدة من النمو والازدهار الحضاري.
وسعى الملك عبدالعزيز إلى تسوية أوضاع البلاد، وتأمين الاعتراف بها مع الدول العربية المجاورة أولاً، ثم مع باقي الدول العربية والإسلامية، وصولاً إلى دول العالم، فعقد مع الدول العربية اتفاقيات ومعاهدات تهدف إلى تسوية الحدود مع هذه الدول من جهة، وخلق أجواء من السلم والأمن والصداقة معها من جهة أخرى علاوة على إقامة علاقة دبلوماسية تلبي مصالح البلاد مع دول العالم دون الإخلال بثوابتها.
من هنا وصف الأديب والمفكر المصري عباس العقاد شخصية الملك عبدالعزيز بالقول: «كان الملك عبدالعزيز عنيداً مع الأقوياء، متواضعاً مع الضعفاء، لكنه كان يسمع الرأي الآخر، فإذا اقتنع به رجع إليه، لأنه اتخذ من الحق والشريعة إماماً وحكماً».
وفي شهر محرم من عام 1373هـ ترجل الفارس الملك عبدالعزيز عن صهوة جواده بعد أن اشتد عليه المرض أثناء إقامته في الطائف، وفي فجر الثاني من شهر ربيع الأول من عام 1373هـ الموافق 9 نوفمبر 1953م فاضت روحه إلى بارئها رحمه الله وغفر له وأجزل له الثواب والأجر على ما حقق لهذا الوطن وأبنائه من أمن وارف، وخير عميم ما زلنا نعيشه حتى اليوم.